«الإخوان المسلمون» أكلتهم ثورة «الربيع» | كانت «جماعة الإخوان المسلمين» في قلب الحدث السوري قبل انطلاقته، خلافاً لما تمّ الترويج له من أنها «دخلت على خط الأزمة في وقت متأخر». يذهب كثيرٌ من المرويّات إلى أنّ «أول بيان صدر عن الإخوان في الأزمة تأخر إلى نيسان 2011». في واقع الحال، كانت «الجماعة» قد اتّخذت خطوات تمهيدية، ظهر منها إلى العلن ثلاث. تعود الأولى إلى مطلع شهر آب 2010 حيث شهدت مدينة اسطنبول التركية قيام «مجلس شورى الإخوان» بانتخاب محمد رياض الشقفة «مراقباً عاماً» وفاروق طيفور نائباً له (كانا من قادة العمل العسكري لإخوان سوريا خلال أحداث الثمانينيات). مثّلت الخطوة عودة لهيمنة «الجناح الحموي» في مقابل «الجناح الحلبي»، كما مهّدت لتحوّل «الجماعة» عن مسار «السياسة الناعمة» الذي انتهجه المراقب الأسبق (علي صدر الدين البيانوني) منذ عام 1996 وأثمر فتح قنوات حوار مع السلطات السوريّة، وصولاً إلى إعلان الجماعة تعليق نشاطها السياسي عام 2009 (كان فاروق طيفور من أشدّ معارضي القرار). لم تستغرق القيادة الجديدة وقتاً طويلاً للبدء بإعادة ترتيب الأوراق. في مطلع عام 2011 اتّخذ قرار إنهاء العمل بتعليق النشاط السياسي، وكان ذلك بمثابة خطوةٍ ثانية. الثالثة جاءت نهاية كانون الثاني 2011 مع إصدار «الجماعة» بياناً بعنوان «الشام على خطى الحرية». وكان بمثابة تنفيذ لـ«تهديدات» إعلاميّة على لسان الشقفة قبل شهر قال فيها «إذا استمر النظام في تجاهله لإرادة الشعب، فسنحرّض الشعب على المطالبة بحقوقه حتى يصل إلى مرحلة العصيان المدني».

رسائل إلى دمشق

جاء البيان رسالة إلى دمشق في سلسلة رسائل «حامية» بدأت بعد أيام قليلة من انتخاب «المراقب» الجديد ونائبه، حيناً عبر وسائل الإعلام وآخر عبر صندوق بريد أنقرة. كانت الأخيرة قد اضطلعت بالإشراف على إعادة ترميم «البيت الإخواني». ولعل أبرز الخطوات في هذا السياق كانت «إعادة الاعتبار» إلى الوجه الإخواني البارز عدنان سعد الدين في اجتماع اسطنبول 2009. عرفت عن سعد الدين معارضته الشديدة لأي مفاوضات مع السلطات منذ عام 1986، وتزعّم «جناح بغداد» في مقابل «جناح الرياض» الذي تزعّمه عبد الفتاح أبو غدّة. ورغم عودة الوفاق بين «الجناحين» بدءاً من عام 1996، غير أن خلافاً كبيراً نشب بين سعد الدين والبيانوني «المراقب العام» سنة 2002 نجم عنه إقصاء سعد الدين مجدّداً. بين اجتماعي اسطنبول 2009 (عودة سعد الدين) واسطنبول 2010 (انتخاب الشقفة وطيفور) زاد حضور قضية الإخوان على خط أنقرة ــ دمشق. تبدّلت لهجة الرسائل ليدخل التهديد على الخط منذ تشرين الأول 2010، وصولاً إلى بيان كانون الثاني 2011. عادت الرسائل في منتصف آذار 2011 مع بدء التحركات في الشارع. وعلى وقع تصاعد الأحداث في درعا، تجاوزت المطالب الإخوانيّة حاجز «إلغاء القانون 49» وضمت المطالبة بسلسلة إجراءات وقراراتٍ سريعة تُحوّل «الجماعة» من محظورة إلى شرعيّة مؤهّلة للمشاركة في الحكم. قبل الخطاب الأوّل للرئيس السوري بشار الأسد أمام مجلس الشعب (30 آذار) عُرضت تلك المطالب عبر أنقرة في شكل «صفقة».

ردود دمشق

لم تكن العلاقة مع رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان قد تأزّمت بعد. انقسمت الآراء داخل الدائرة الضيقة في دمشق ما بين متحمّس لـ«الصفقة» ورافض لها بشكل كلّي. كان الرافضون يرون في الاستجابة نوعاً من «الرضوخ غير مضمون العواقب». رسمَ التباين ما يمكن وصفه بـ«استراتيجيّة النصف» التي طبعت تعامل السلطات مع الأشهر الستة الأولى من الأزمة، وقوامها السير نصف خطوة في كل اتجاه، بحيث تستمرّ القبضة الأمنية حاضرة في الشارع، بالتزامن مع الإعلان عن «سلسلة إجراءات إصلاحيّة». تضمّن خطاب الأسد الأول جملةً مفتاحية لخصت الرد على الرسالة الأخيرة: «إذا فرضت علينا المعركة اليوم فأهلاً وسهلاً بها». بعد الخطاب بأيّام (5 نيسان 2011) أصدر الإخوان بياناً حمل صبغة سياسيّة وتضمّن مطالب عامّة لا تقتصر على «الجماعة» فحسب.

من التظاهر إلى التسلّح: حاضرون

رأت الجماعة في دوران عجلة التظاهرات فرصةً مثاليّة للضغط على السلطات التي خلُصت تقييماتُها للوضع إلى أنّ «ثقل الإخوان في الشارع السوري لا يخوّلهم النجاح في تأجيج الشارع». اتّخذت الأجهزة «إجراءات احترازيّة» في معظم المدن والمناطق التي وُصّفت «بيئة داعمة للإخوان»، لكنّها لم تمنع الشارع من التفاعل سريعاً مع أحداث درعا في عدد من المدن مثل دوما وحرستا وحمص. كان لـ«الجماعة» دور أساسي في حشد المتظاهرين عبر وسائل عدّة «إعلاميّة» وفّرتها منصّات كثيرة، منها ما هو رسمي (مثل قناتي «الجزيرة» و«العربيّة») ومنها غير رسمي مثل مواقع التواصل الاجتماعي (أبرز المنصّات على مواقع التواصل كانت «صفحة الثورة السوريّة» التي باشرت نشاطها في شباط 2011). في البيئات التي سبق للجماعة أن تغلغلت فيها، أخذ النشاط طبيعةً أكثر مباشرة، عبر تنسيق التحركات وقيادتها من خلال بعض رجال الدين أو الوجاهات الاجتماعيّة المتعاطفة مع الإخوان (تُعتبر مدينتا دوما وحرستا في ريف دمشق من أوضح تلك الأمثلة). في درعا ساهمت «الجماعة» بشكل فعّال في الترويج لفكرة «ضرورة التسلّح لحماية التحرك السلمي»، ولعبت دوراً أساسيّاً في إدخال شحنات سريعة من الأسلحة الفردية عبر الحدود الأردنيّة. أمّا في حمص فكان لـ«اللجنة العامّة لحماية المدنيين» (برئاسة العضو السابق في جماعة الإخوان هيثم رحمة) دورٌ محوري في إرسال الأسلحة والمال إلى المقاتلين. ولعب أحد أفراد الجماعة (حسام أبو هابيل) دوراً أساسيّاً في تنظيم عمليات تهريب الأسلحة عبر الأراضي اللبنانيّة، ولاحقاً في تشكيل ميليشيات عدّة. بدأ أبو هابيل نشاطه في وقت مُبكر من عمر الأزمة (أيار 2011 على الأرجح)، قبل أن يتّسع نشاطه ويُصبح أكثر تنظيماً. وبحلول آب 2012 بات قادراً على «جمع ما يتراوح بين 40 و50 ألف دولار شهريّاً لإمداد الميليشيات الاسلامية في محافظة حمص بالسلاح ومعونات أخرى»، وفقاً لما نقلته عنه صحيفة «دايلي تليغراف» حينها. وقد نقلت الصحيفة تأكيد أبو هابيل أنّ «مهمّتنا بناء دولة مدنية ولكن على أساس إسلامي، ونحاول التوعية بالإسلام والجهاد». كذلك، لعب العضو في الجماعة خالد خلف (أصبح عضواً في «المجلس الوطني» بعد إنشائه) دوراً محوريّاً في توفير الأسلحة منذ أيّار 2011 لمسلّحين في كلّ من حمص وحماة ودير الزور.
أوّل «تنظيم» سياسي محسوب على الإخوان ظهر في 18 شباط 2011

«العمل السياسي»

كانت «الجماعة» سبّاقة في مجالات العمل السياسي، مستندة إلى قاعدة متينة من التحالفات مع أبرز اللاعبين الإقليميين في الشأن السوري (تركيا وقطر في الدرجة الأولى، ولاحقاً السعودية). أوّل «تنظيم» سياسي محسوب على الإخوان ظهر إلى العلن قبل بدء التظاهر في سوريا، وتحديداً في 18 شباط 2011، حيث شُكّلت «مجموعة العمل الوطني من أجل سوريا»، وكان من أبرز أعضائها أحمد رمضان وعبيدة نحّاس. لاحقاً كانت المجموعة جزءاً أساسيّاً في «المجلس الوطني السوري» الذي شكل في تشرين الأول 2011. وقد حظيت بممثلين في «الائتلاف» المعارض منذ تشكيله عام 2012، وفي «الحكومة المؤقتة» عند تشكيلها عام 2013. كذلك شاركت المجموعة في «مؤتمر جنيف 2» عام 2014.




«ثورة الأمس»
تعود بذور الخلاف بين «الجماعة» وحزب البعث إلى ستينيات القرن الماضي. فقد شهدت حماة مواجهات بين الطرفين، من أشهرها أحداث ثانوية الحوراني في آذار 1964، إثر قيام طالب إخواني بكتابة آية قرآنية «ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون». تشرح الحادثة جوهر الخلاف: «الجماعة» تطالب بـ«حكم الله»، وترى من يحكم بسواه «كافراً»، والبعث يقبض على السلطة ويعتمد لاحقاً دستوراً لا ينص على أن «دين الدولة هو الإسلام» (الدولة بأكملها وليس الرئيس). شكلت أحداث مسجد السلطان (حماة 1964) مفصلاً مهماً. دأب الإخوان على تأكيد «سلميّة حراكهم» حينها، لكن روايتهم حملت لاحقاً اعترافاً بوجود أسلحة في حوزة المعتصمين «كان بعض عناصر الإخوان يحملون مسدسات صغيرة وأسلحة بسيطة أخرى عبارة عن زجاجات مولوتوف لا يتجاوز عددها سبع زجاجات أو ثماني»، وبأن أولى ضحايا تلك الحادثة كانت من البعثيين «حدث أن قتل طالب بعثي أثناء التظاهرات، فاستدعى عبد الحليم خدام (محافظ حماة حينها) الجيش الذي حاصر المسجد». استمرّت الحال بين مدّ وجزر قرابة عقدين، نفّذت «الجماعة» خلالهما تفجيرات واغتيالات ونفّذت السلطات عمليات اعتقال وتعذيب. احتدمت المواجهات بعد تشكيل مروان حديد «الطليعة المقاتلة» (1975) مروراً بـ«مجزرة المدفعيّة» في حلب (حزيران 1979)، والتي كانت أول مجزرة من نوعها في تاريخ سوريا الحديث، ثم محاولة اغتيال الرئيس الراحل حافظ الأسد (حزيران 1980) وصولاً إلى صدور القانون 49 (تموز 1980)، ثم «مجزرة حماة» 1982.




«الطلائع المقاتلة»
في «الأزمة» الأولى حاولت «الجماعة» تسويق فكرة عدم ارتباط «الطليعة المقاتلة» بها. وهو أمر ثبت لاحقاً عدم صحّته وفقاً لوثائق عدّة، منها واحدة صادرة عن وكالة استخبارات الدفاع الأميركية DIA عام 1984، ورفعت عنها السريّة عام 2013. في الأحداث الراهنة طوّر الإخوان وسائلهم عبر السعي إلى تشكيل مجموعات مختلفة في مناطق كثيرة، على ألّا ترتبط المجموعات بهم ظاهريّاً ووفّروا لها كل وسائل الدعم اللازمة. أبرز هذه «الطلائع المقاتلة» كانت «حركة أحرار الشام»، «ألوية صقور الشام»، «سرية أبو عمارة»، «تجمّع فاستقم كما أُمرت»، «كتائب الفاروق» (التي تحولت لاحقاً إلى نواة لـ«حركة حزم»)، «لواء التوحيد»، «هيئة دروع الثورة»، وغيرها.