قبل عامين من الآن، في السادس عشر من آذار 2014، شارك المئات في أطول سلسلةٍ بشريّةٍ للقراءة في القدس. التف الناس من مختلف الأعمار والفئات حول سور المدينة المقدّسة. جمعتهم الكتب بالسور القديم. يحملُ كل منهم كتاباً ليقرأه على جوانب السور، وفي قلب المدينة. كأنّ الحدث أراد أن يوصل رسالةً واضحة لكلّ من يحاول أن يمزّق ثقافة هذا الشعب، ولكلّ من يحاول دفن تاريخه، أنّ هذا التاريخ يتلاقى هُنا مع الثقافة، في قلوب الشبّان الذين أطلقوا الفكرة، وأسسوا حينها لتظاهرة كبيرة لم تشهدها المدينة منذ أشهرٍ.
لم يعلم أحد شيئاً عن منسقي السلسلة الذين كانوا قد أطلقوها تحت اسم "مبادرة أبناء البلد"، والذين كانوا قد افتتحوا قبل عام، مكتبةً في مدينتهم. احتفلوا بهذه المكتبة بالسلسلة الطويلة للقراءة. صاحب الفكرة، كان شاباً من المدينة المقدسة، لم يعرفه أحد، ولم يظهر أبداً في الإعلام. كان واحداً من الشبّان الذين عانقوا سور المدينة بواسطة الكتب التي قرأوها.
بعد أقلّ من عامين على الحدث، في الثالث عشر من أكتوبر عام 2015، وبعد أيامٍ قليلة من بدء الأحداث التي عُرفت فيما بعد على أنّها الانتفاضة الثالثة، قام شابٌ في الثانية والعشرين من عمره، باقتحام أحد الباصات "الإسرائيلية، في مدينته القدس، برفقة صديق. أسفرت العملية عن مقتل ثلاثة مستوطنين إسرائيليين، واستشهاد الشاب، الذي لم يكن سوى بهاء عليان، في حين اعتقل صديقه.
كان بهاء واحداً من أكثر الشبّان تميزاً في بلدته "جبل المكبّر" نواحي القدس المحتلة. عُرف الشاب بعطائه، ومبادراته السريعة في كلّ ما يتعلّق بوطنه، بنواحيه الثقافية والفنيّة، وعُرف مؤخراً في الناحية البطولية، عندما نفّذ عمليته الكبيرة.
أمّا السلسلة التي كانت في بداية العام السابق لاستشهاده، فقد كان هو صاحب فكرتها، مؤسسها ومنفّذها. كان صاحب الفكرة التي أحيت جزءاً مهماً في المدينة، ليبيّن أنّ القراءة جزءٌ لا يتجزّأ من علاقة الناس بمدينتهم وليُقول لمحتلّه، إنّ الشعب هنا يتمسّك بالقراءة، سعياً لطردك.
بقيت جثة بهاء لدى الاحتلال، لم تٌسلّم لأهله حتى هذا اليوم. لكن، الفكرة التي أطلقها لم تبقَ محبوسة كما جسده.
بعد ثلاثة أشهرٍ من استشهاده، قرّر عددٌ من الطلّاب في جامعة الخليل استعادة فكرته، وتنفيذها في جامعتهم. التف العشرات في ساحات الحرم الجامعيّ، وحملوا هذه المرّة مع كتبهم، ذكرى الشهيد بهاء عليان بحضور والده.
أسعدت الفكرة والد بهاء، شارك مع الشبّان فيها، وقال إنّه يرى ابنه في داخل كلّ شاب من الذين خرجوا في السلسلة الجديدة. ابنه تحتضنه اليوم الجامعة بدفئها، في قلوبهم، وبين الكتب، بعيداً عن برد الثلاجات.
فيما بعد، تتالت السلاسل، وتسلّلت الفكرة التي أطلقها بهاء خارج أسوار القدس، فوصلت إلى جزء كبير من المدن الفلسطينيّة، بينها الخليل، وبيرزيت، ونابلس، حتى غزّة.
شارك العشرات أيضاً، مطلع مارس/آذار، في سلسلةٍ ممتدة لفكرة بهاء، في ميناء غزّة، غرب المدينة المحاصرة. تجمّعوا حول لسان الميناء، حملوا كتبهم، وأكدوا للناس أنّ الشهيد الذي سُجن جسده، أصبح حُراً، من خلال فكرته. الفكرة التي جابت مناطق الوطن المحتل كافّة.
امتدت فكرة السلسلة، حتى قبل أيامٍ قليلة. فالأسبوع الأخير، أقيمت في الخليل سلسلة جديدة، وأخرى في جامعة النجاح بمدينة نابلس.
عندما توجّه بهاء إلى لقاء ساعته الأخيرة في الباص الذي نفّذ فيه عمليّته، طلب من أمّه أن تُرتب أزرار قميصه. أخبرها أن تعتني جيّداً به، مُبرراً ذلك أنّه "ذاهبٌ لعرسه". كان هذا اللقاء عُرساً، عندما أسعد الآلاف بعمله البطوليّ. وكان عُرساً ثقافياً، عندما أنشأ سلسلته الشهيرة، وامتد العُرس، حتى اليوم، إلى أنّ يُقام عرسه الأخير، بعد أن يعود جسده ويُدفن، كما يُريد هو، وكما ينتظر والده، بين أحضان فلسطين، وفي تُرابها، بدلاً من ثلاجات الاحتلال الباردة.