كأن العراق بات محكوماً بالمأساة. الأزمة الداخلية تزداد تعقيداً، وتتهدد بتفجير العملية السياسية، ومعها الوضع الأمني، مع عودة السعودية وقطر إلى اللعب بالنار العراقية، ببرَكَة تركية، في خطوة تستهدف إطاحة رئيس الحكومة العراقية، نوري المالكي، وتشديد الطوق على سوريا، بعدما برهنت تطورات الأشهر الأخيرة أن الطريق إلى دمشق تمر من بغداد. وما إرجاء مؤتمر المصالحة الوطنية الذي كان مقرراً إلا تفصيل صغير في هذا السيناريو. أوساط المالكي تتحدث عن معلومات أمنية تفيد بأن جهات سعودية وقطرية، بدعم من أطراف داخلية، تستعد لشن موجة من الهجمات والتفجيرات، في محاولة للضغط أمنياً على رئيس الوزراء لانتزاع تنازلات سياسية منه، في الداخل عبر تعزيز وضع الأطراف المناوئة له في الحكم، وفي الخارج خاصة حيال سوريا. وتوضح أن جهاز أمن رئاسة الوزراء اعتقل قبل القمة العربية، التي عُقدت أخيراً في بغداد، مجموعة من الخلايا وصادر كميات كبيرة من الأسلحة المتطورة، بينها صواريخ حديثة، كانت تستعد لاستهداف القمة وتنفيذ ما يطلب منها بعدها. الأوساط نفسها تؤكد أن «الغاية كلها مما يجري هي العمل على إعادة العراق إلى حظيرة السعودية، وهو ما لن يحصل. يراهنون على إسقاط المالكي، معتقدين أن خليفته سيدفع البلد شيئاً فشيئاً نحن المحور السعودي القطري».
ويبدو أن القيادات السعودية والقطرية شعرت بأن المالكي يؤدي خدمات للمحور الإيراني. يأخذون عليه أنه فوت الفرصة عليهم لتصعيد الضغط على دمشق. تصريحاته المؤيدة لبشار الأسد والجازمة بأنه «لن يسقط» لم ترقهم، وحبر بيانات القمة لم يجف بعد. أيقنوا أن كل الكلام المهادن قبيل القمة لم يكن إلا لضمان انعقادها، وليس تغييراً في الموقف العراقي. بات واضحاً بالنسبة إليهم أن التغيير في دمشق لن يحصل إلا عبر تغيير في بغداد، حيث هناك أطراف عديد تدفع باتجاهه لحسابات محلية ضيقة، عنوانها اتفاق أربيل وتوزيع السلطة والثورة. إلا أن المشكلة الرئيسية في الحسابات الإقليمية بات واضحاً أنها نقل العراق من محور إلى آخر.
وبغض النظر عن خلفية كل من الأطراف، النتيجة الوحيدة المحسومة هي أن الأزمة لا تزال في ريعان شبابها، وتكتيك «ضرب الأمن للإمساك في السياسة» سيسفك الكثير من الدماء، و«سيبقى المالكي ما دام الله وإيران راضيين عنه».
جرت العديد من المحاولات، خلال الأسابيع الماضية، لخلط الأوراق في العراق، عبر مصالحة المالكي مع أسامة النجيفي، ليشكلا مع جلال الطالباني محور سلطة، في مواجهة محور آخر يضم مسعود البرزاني ومعه طارق الهاشمي برفقة إياد علاوي. إلا أنها جهود بات واضحاً أنها لم تبلغ نهايتها السعيدة. أوساط النجيفي تلقي باللوم في ذلك على المالكي الذي لا يستقبل رئيس البرلمان ولا يرد على مكالماته الهاتفية، برغم أنه أحد كبار القادة السنّة وشاغل إحدى الرئاسات الثلاث. كذلك الأمر بالنسبة إلى أوساط صالح المطلك التي تؤكد أن طريقة تعامل المالكي معه هي نفسها مع كثير من الساسة، مثلاً كأن يستغل إذن سكنهم في المنطقة الخضراء سنوياً للضغط عليهم، فضلاً عن قطع الكهرباء والماء أو وضع دبابة أمام منزلهم للغاية نفسها. يقولون إنهم حاولوا أكثر من مرة الانفتاح عليه وتحسين العلاقات معه، بوساطة أطراف إقليمية، من دون استجابة من قبله.
على العكس، يبدو أن الأمور انتهت إلى اتفاق بعيد عن الأضواء، حاكى التفاهمات التي كانت معقودة عشية الاتفاق على تأليف الحكومة الحالية. مكوناته: القائمة «العراقية» ومعها التحالف الكردستاني، وبعض الأطراف الشيعية. هدفه: الضغط بشتى الاتجاهات في الداخل، والطلب إلى الدول والأطراف الإقليمية المعنية بالقرار العراقي، تغيير نوري المالكي. لسان حاله: مستعدون للقبول بأي رئيس حكومة تطرحونه. فليكن إبراهيم الجعفري، وإن حصلت معوقات فلا مانع من أحمد الجلبي. رسالة يفترض أن ينقلها رئيس حكومة إقليم كردستان العراق نيجريفان البرزاني في زيارته لطهران، فيما يستعد رئيس الإقليم مسعود البرزاني لحملها معه إلى واشنطن، وآخرون لإبلاغها للأطراف الإقليمية الأخرى المعنية.
من يستمع إلى أوساط هؤلاء يستشف من بين ثنايا كلامهم وكأن هناك من سرب لهم أن موقف طهران من المالكي قد اهتز، في معلومات، بغض النظر عن مدى صحتها، شكلت بالنسبة إليهم الحافز الأساسي للتحرك.
التحالف ضد المالكي
نظرة عامة على التحالف ضد المالكي تظهر وكأنه يضم الفئات الكبرى العراقية الثلاث: الأكراد والسنّة والشعية. لكن نظرة لصيقة بتشكيلات هذا التحالف تظهرهم على الشكل الآتي:
على الساحة الكردية، يبدو الفريق الأكثر تطرفاً ضد المالكي هو مسعود البرزاني. أصلاً مجرد استقباله لطارق الهاشمي، ومعه التصريحات النارية ضد رئيس الوزراء خير دليل على ذلك. أليس هو من وصف المالكي بأنه الديكتاتور الجديد، وأليس هو القائل إن «قاتل الشيعة يجلس اليوم على كرسي القائد الأعلى للقوات المسلحة». ولا شك في أن موقف البرزاني مفهوم. هو والمالكي أعداء بحكم مواقعهم وتوجهاتهم السياسية. واحد يدفع نحو لامركزية ترقى إلى حد الانفصال وآخر نحو مركزية صارمة ترقى حد القبضة الحديدية. لكن إلى جانب البرزاني، هناك جلال الطالباني الذي يبدو أنه يمسك العصا من الوسط، في ترجمة أمينة لواقعه: من ناحية، هو كردي يحلم بكردستان، ومن ناحية أخرى هو رئيس الجمهورية المؤتمن على وحدة العراق. هو شريك البرزاني في كردستان، وشريك المالكي في العراق. صديق للدول العربية وتركيا الداعمة لتوجهات البرزاني، وحليف وثيق لإيران الداعمة للمالكي.
وعلى نقيض هذا وذاك هناك، هناك «حركة التغيير» الكردية التي يتزعمها نيشروان مصطفى، وهي ضد الحزب الديموقراطي وضد الاتحاد الوطني ويستبعد أن تسير معهما في تصويت لإقصاء المالكي من الحكومة، يدفعها إلى ذلك العلاقات التي تربطها بهذا الأخير.
على الساحة السنية، والمقصود هنا القائمة «العراقية»، فهي لم تعد كما كانت عليه يوم فازت بمقاعدها الـ٨٩. وقتها جمع مكونات العراقية عداؤهم للمالكي وما يمثله، قبل أن تفرقهم المصالح وكعكة السلطة، ليعود الزعماء بينهم للتكتل ضد المالكي وإنما بجسم متصدع نالت منه صراعات العامين الماضيين: «العراقية البيضاء» انسحبت من القائمة الكبرى ومعها جماعة رئيس الحركة الوطنية للإصلاح والتنمية جمال الكربولي، فضلاً عن ظاهرة التسرب الفردي التي عصفت بالقائمة العراقية وجعلت جسمها ضعيفاً هزيلاً. تبقى الساحة الشيعية، حيث من المؤكد أن تكتل دولة القانون والتكتل الثلاثي الذي يضم حزب الفضيلة ومنظمة بدر وعصائب أهل الحق، لا يزالان على تأييدهما للمالكي. يبقى المجلس الأعلى، وإن كانت هناك تسريبات تشير إلى أنه في الطرف الآخر، إلا أنه لا يستطيع أن يجاهر بموقفه هذا، لا في الكلام ولا في البرلمان، وبالتالي فهو مضطر إلى اعتماد سياسة الغموض. والتيار الصدري، الذي يبدو أنه لا يسير في ركب معارضي المالكي، على الأقل ظاهرياً، فضلاً عن استبعاد أن يكون في الخندق نفسه مع المجلس الأعلى في هذا الملف. وإذا ما اعتمد القياس بمواقفه من الأزمة الحكومية السابقة، فهو لا بد من أنه سيناكف المالكي لانتزاع أكبر قدر من المكاسب منه من دون أن يخرج من كنفه.
وصحيح أن قطر والسعودية، ومعهما تركيا، تدعم بالكامل هذا الحراك المستجد، لكن المعلومات الواردة من طهران، لا تُظهر أي تراجع في الدعم الإيراني للمالكي، بل على العكس، تتزايد في الجمهورية الإسلامية معدلات التمسك بالمالكي «الذي أثبت أنه حليف يمكن الاعتماد عليه»، بدليل مواقفه الصارمة من الانسحاب الأميركي من العراق ومن الملف السوري... «وهل ينسى أحد كيف وقف إلى جانب (الرئيس الأميركي باراك) أوباما يعلن رفضه تنحي (الرئيس السوري بشار (الأسد)». أما سورياً، فيبدو بديهياً أن دعمها له، وإن حصل عليه بضغط إيراني ولضرورات إقليمية عند تشكيله حكومته الحالية، إلا أن مواقفه من الأزمة التي تعصف بدمشق لا بد أنها جعلت هذه الأخيرة من أشد داعميه.
الفريق الدافع باتجاه إقالة المالكي يطرح تنفيذ اتفاقات أربيل عنواناً لمعركته مع المالكي. يقول بضرورة تطبيقها قبل أي مصالحة على المستوى الوطني. ومعروف أن هذه الاتفاقات، التي شُكلت الحكومة بناءً عليها، تنص على آلية لتشكيل حكومة برئاسة المالكي وفقاً لتسعة بنود هي احترام الدستور، والحكم بالتوافق والتوازن، وإنهاء عمل هيئة المساءلة والعدالة، وتفعيل المصالحة الوطنية، وتشكيل حكومة شراكة وطنية. الاتفاق نص أيضاً على منح منصب رئاسة الوزراء للتحالف الوطني وتشكيل مجلس جديد أطلق عليه «مجلس السياسات الاستراتيجية» تناط رئاسته بالقائمة العراقية، وتحديداً بشخص إياد علاوي الذي قرر في وقت سابق التخلي عن المهمة. في المقابل، فإن المالكي وفريقه يقود المعركة تحت عنوانين: الأول أن مشاكل العراق أكبر بكثير من اتفاقية أربيل، ولا بد من وضعها كلها على بساط البحث من أجل التوصل إلى مصالحة وطنية، من قضيتي توزيع الثروة والسلطة، إلى مسألة كركوك والمناطق المتنازع عليها، وغيرها من القضايا الخلافية. أما العنوان الثاني فهو الاحتكام للدستور لحل هذه الخلافات.
الفريق الأول متمسك بتطبيق اتفاقيات أربيل قبل الجلوس إلى طاولة المصالحة، فيما الفريق الثاني متمسك بحل رزمة شاملة، وهو السبب الرئيس الذي دفع بالنجيفي يوم أمس إلى إعلان إرجاء مؤتمر المصالحة الذي كان الطالباني قد أعلن عقده في الخامس من الشهر الجاري، إلى أن «تستقر الرؤى والافكار ونتوصل إلى تهدئة للوضع السياسي»، داعياً إلى «الاتفاق على جدول الأعمال» أولاً.
حكاية طارق الهاشمي تفصيل آخر في هذا الصراع الذي يدافع فيه المالكي عن نفسه، فيما الفريق الآخر يلعب ورقته الأخيرة مقتنعاً بأن أي تراجع له يعني نهايته. حال لا بد أن تستغلها دول مثل السعودية وقطر أبعد استغلال، في لعبة عنف دامية، بانتظار ضغوط الوسطاء الإقليميين باتجاه اتفاقات جزئية مؤقتة (مثل مصالحات بين المالكي وبين بعض الرموز) تريح الوضع بعض الشيء في بعض الجوانب من دون أن تنجح في تحقيق تسوية شاملة.



تراجع عن كلامه

زار وفد عراقي سياسي قبل نحو أسبوعين رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان. انطباعه أن الزعيم التركي يبدو محبطاً من الوضع في سوريا، لكنه لا يزال عند تشنجه من نظام الرئيس بشار الأسد. ولما سئل ما العمل؟ كان جوابه «اذهبوا وابحثوا أنتم عما يجب فعله». كذلك زارت شخصية عراقية بارزة السفير الأميركي في بغداد قبل أيام. ولما سئل السفير عن النظام في سوريا كان جوابه «أسحب كلامي السابق النظام باقٍ». وكان السفير نفسه قد قال للشخصية نفسها أواخر العام الماضي، رداً على السؤال نفسه، «لا تتعبوا أنفسكم، إن نظام الأسد ساقط حتماً». وأخيراً، أفادت مصادر عراقية معنية بأن رئيس المجلس الوطني السوري، برهان غليون، أجرى أخيراً سلسلة اتصالات بقيادات من القائمة «العراقية» يطلب إليها العمل على إغلاق الحدود في وجه المقاتلين المؤيدين للأسد الذين يتوجهون إلى سوريا، في مقابل تسهيل مرور المقاتلين الذين يرغبون في مقاتلته ومعهم أسلحتهم.