سبها | فيما يؤكد الكثيرون أن القتال في سبها بدأ بعد قيام مسلحين من قبيلة التبو بقتل موظف في شركة الكهرباء، وسرقة سيارته، أعلن المجلس الوطني الانتقالي أن النزاع في منطقة سبها الليبية الجنوبية (تبعد عن العاصمة طرابلس نحو 750 كيلومتراً)، بدأ بسبب خلاف على توزيع الأموال على الثوار، وتطور إلى إطلاق نار، ما تسبب في مقتل أحد قادة سرايا ثوار التبو، ومرافقين له.
لكن مهما كان السبب، فقد عكست المعارك حالة احتقان كبير في مناطق الجنوب، وكشفت عن وجود كمّ هائل من تراكمات تعود إلى عقود من الزمن. ومع عودة الهدوء إلى سبها، تجولت «الأخبار» في بعض أحياء المدينة، التي كانت تشهد حياة طبيعية، حيث تكاد تختفي المظاهر المسلحة فيها، من دون أن يعني ذلك انتفاء تأثيرات الاشتباكات على وضع المرافق، وخصوصاً المستشفى الذي يمكن وصفه بأنه «يُحتضر» ، بسبب نقص موارده البشرية والتجهيزات الطبية الأساسية.
في المقابل، عاد النشاط التجاري إلى المدينة، حيث عاد الباعة المتجولون لمزاولة نشاطهم، فيما يجلس العشرات من العمال من ذوي البشرة السمراء ممن ينحدرون من دول الجوار الأفريقي على الأرصفة في انتظار زبائنهم. ولا تكاد تظهر على ملامحهم أي علامات للهلع حتى أثناء قصف الأحياء المجاورة وارتفاع أصوات التكبير معلنة حالة الطوارئ في بعض أحياء المدينة.
آراء متفاوتة أبداها أهالي المدينة من الأحداث. فالطالب الجامعي محمد الزين أبدى أسفه لخسارة الأرواح قائلاً: «الحكومة أدت كل ما هو مطلوب منها، لأن المشكلة بدأت من أطراف محسوبة عليها، من دون أن يفهم عوام الناس حقيقة الموقف»، مضيفاً: «أرى أن اعتبار الحكومة المدينة منطقة عسكرية يُعدّ خطوة صحيحة، وخاصة اذا ما جرى احتواء كتائب الثوار تحت لواء الجيش الوطني». ويخشى الزين من «استيطان قبيلة التبو» للمدينة، مشدداً على انه «لا بد أن تتحرك الحكومة لإخراج التبو غير الليبيين خارج الحدود، وأن تجردهم من الجنسية التي منحت لهم، فيما يبقى التبو الليبيون في قراهم».
من ناحيتها، أشارت الصحافية الليبية، وهيبة الكيلاني، إلى أن أصواتاً كثيرة تعالت بعد الأحداث التي شهدتها المدينة، مطالبة بالفدرالية والانفصال لعدم رضاها عن تعاطي الحكومة مع مطالب المنطقة. ورأت أن الحل الحالي مجرد معالجة وقتية ومرحلية وليس ناجعاً، وأن «الحل يكمن في الفدرالية، لأنها ستنقذ المنطقة من التهميش التي كانت ولا تزال تعانيه بالرغم من سقوط النظام».
بدوره، يرى الناشط السياسي الليبي، علي حمودة، أن الموقف لم يكن ليتطور ليصل إلى ما وصل إليه لولا استغلاله من بعض القوى لتصفية حسابات قبلية. وقال: «حقيقة الموقف ليست كما تروى، فجريمة القتل التي حدثت لم يكن للتبو يد فيها، غير أن هناك من استغل الموقف لتبرئة ساحته مما حدث، ولاستحداث جبهة قتال بين القبائل العربية والتبو».
ويرى حمودة أن الرأي العام راضٍ عن الحل الذي انتهت إليه لجان المصالحة حقناً للدماء، إلا أنه يستبعد استعداد المنطقة لانتخابات المؤتمر الوطني العام المقبلة، قائلاً «سيغيب التمثيل الحقيقي لأن الغلبة للسلاح، وسيفرز الجنوب أصحاب السلاح ولن يفرز النخب السياسية والثقافية».
وبشأن احتمالية انفصال الجنوب، لا ينفي حمودة وجود دعوات إلى الفدرالية منذ تشرين الثاني الماضي، إلا أنه يرى «أن ذلك بعيد المنال، لرفض الرأي العام مثل هذه الدعوات شكلاً وموضوعاً، لأن الغالبية تشعر بالاضطهاد من قلة تحكم الجنوب، وسيزداد اضطهادهم اذا ما انفصل الجنوب وبقي تحت سلطة هذه القلة».
ولا يعوّل الباحث الإسلامي الليبي، فتحي عقوب، على نجاح المجلس الوطني الانتقالي أو الحكومة المؤقتة في التعامل مع الجنوب الليبي، ويرى أن «الجنوب قنبلة موقوتة، وثمّة تبلّدٌ صريح في التعاطي مع الأوضاع، وضعف مُخجل وهشاشة من أُسِّ الدولة ورأسها.. حتى ليتبادر إلى الذهن وينطبع في النفس أن هؤلاء لا يعدّون الجنوب جزءاً من ليبيا، فضلاً عن كونه عمقاً استراتيجياً لها، أو كأنّ سكانه وقاطنيه ليسوا من الليبيين».
في الوقت نفسه، نبه رئيس المجلس المحلي لمدينة سبها، أيوب الزروق، إلى خطورة الموقف، محذراً الحكومة من تدهور الوضع في المنطقة، قائلاً «قد يصل إلى الانفصال اذا تركت الأمور على ما هي عليه»، طالباً التدخل للحفاظ على وحدة الوطن، كما ناشد الزروق الحكومة الإسراع في رفع المعاناة عن سكان الجنوب، وتقديم المساعدات الإنسانية العاجلة، وإصلاح الوضع الصحي المتدهور. وكشف عن وجود صعوبات للتبو الليبيين في العودة الى منازلهم في حي الطيوري، الذي شهد اشتباكات أخيراً. ورأى أن من الصعب جداً إجراء انتخابات في المنطقة في ظل التدهور الأمني الذي تشهده المنطقة.

وثيقة المصالحة منعت حرباً أهليّة



يوم الاثنين الماضي الواقع فيه 26 آذار، مثّل محطة خطيرة في مسيرة السلم الأهلي في ليبيا بعد أشهر قليلة من انتهاء عهد الظلم الذي دام 42 عاماً. إلا أن وثيقة المصالحة التي توّجت العديد من مساعي التهدئة بين الأطراف المتقاتلة أنقذت البلاد من جحيم حرب أهلية في ظل انتشار السلاح واستفحال النزاعات بين القبائل.
في هذا اليوم، قتلت مجموعة من قبيلة التبو، موظفاً في شركة الكهرباء، الأمر الذي أشعل نار المواجهات العنيفة بين مسلحي قبائل سبها العربية ومسلحي قبيلة التبو.
وتواصلت الاشتباكات بين الفريقين على مدى يومين، خرج على أثرها مدير الأمن الوطني في المدينة محمد أبو سيف، ليؤكد عودة الهدوء نسبياً.
لكن تسعير المشكلة ظهر بنحو فاضح حين اتهم زعيم قبيلة التبو، عيسى عبد المجيد منصور، المجلس الانتقالي بإدارة خطة «للتطهير العرقي» تستهدف قبيلته، ملوّحاً للمرة الأولى بالانفصال. وكانت نتيجة هذا التصعيد في المواقف عودة الاشتباكات يوم الأربعاء إلى أحياء المدينة، قبل وصول وفد من مدينة مصراتة الساحلية، يضم أعضاء من مجلسها المحلي والعسكري، لاحتواء الموقف.
وبالتزامن مع ذلك، كانت تعزيزات عسكرية من عدة مدن ليبية تصل إلى سبها لمساندة أهاليها من العرب، بعدما نقلت مصادر إعلامية عنهم تعرضهم لـ«غزو» من التبو.
وبعد مخاض عسير، اتفقت قبائل سبها على مبادرة لجان المصالحة التي تقضي بوقف إطلاق النار من الطرفين، وتسليم الجثامين والأسرى والجرحى من دون أن يحق لأي من الطرفين، مطالبة الآخر بالتعويض المادي عما لحق به من أضرار ستتكفل الدولة بها.
ونصت المبادرة أيضاً على تسليم جميع المرافق والمنشآت المدنية والعسكرية إلى الجيش الليبي، وأن يتعهد الطرفان عدم تعرض أحدهما للآخر، وتراجع أفراد التبو المسلحين إلى منطقة القطرون التي تعد آخر المدن في الجنوب.
بيد أن أعيان منطقة القطرون من التبو رفضوا أحد بنود الوثيقة، ويقضي بتراجع مسلحيهم حتى القطرون، ما أعاد الأمور إلى النقطة الصفر. هنا عادت لغة الرصاص والقذائف إلى المشهد. وبدأت ميليشيات سبها العربية بقصف أحياء التبو بالمدفعية الثقيلة، الأمر الذي أدى إلى حرق منازل ومرافق وتزايد في أعداد القتلى والجرحى.
هذا الانفجار الجديد دفع لجان الصلح للتوجه إلى مطار سبها، حيث اجتمعت مع قادة الميليشات، في محاولة لتهدئة الأوضاع، فأعلنت وقفاً لإطلاق النار لأربع وعشرين ساعة بدأت من ليلة الجمعة الماضي.
وتضمنت اتفاقية الصلح تراجع مسلحي التبو حتى منطقة غدوه (20 كيلومتراً جنوبي سبها) على أن تضمن الوثيقة سلامة
أهالي التبو في أحياء
سبها.
إلا أن يوم الجمعة، رغم قبول القائد العسكري لمسلحي التبو، بركة وردكو، بأي اتفاق تضعه لجان الصلح، استيقظت سبها على أصوات قصف مدفعي عنيف على حي الطيوري الذي يسكنه التبو، في خرق من ميليشيات سبها لهدنة وقف إطلاق
النار.
هذه المعارك استمرت حتى ظهر الجمعة بين الطرفين، حتى تدخلت لجان المصالحة لدى زعماء القبائل في المنطقة لحسم الموقف. ونجح هذا الاجتماع بإعلان وقف فوري لإطلاق النار من جميع الأطراف، وتسليم كافة المعسكرات والمواقع للجيش الوطني وتخيير جميع منتسبي كتائب الثوار للانضواء تحت شرعية الجيش الوطني أو الأمن
الوطني.
ووقع رؤساء المجالس المحلية في المدينة وزعماء وشيوخ قبائلها الوثيقة، فيما أعلن رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل جنوب ليبيا منطقة عسكرية، وعين قائد قوات الصاعقة التابعة للجيش الليبي، العقيد ونيس بوخمادة، حاكماً عسكرياً للمنطقة.
رضا...