باريس | طوال أشهر، كان زياد تقي الدين يعدّ «حليفاً موضوعياً» للمعسكر الموالي لنيكولا ساركوزي في «حرب ملفات الفساد»، التي تفجّرت مطلع الصيف الماضي بين الرئيس الفرنسي الحالي وغريمه المقرّب من جاك شيراك، رئيس الحكومة السابق دومينيك دوفيلبان. ركّز تاجر السلاح اللبناني هجماته، طوال أشهر، على «الشيراكيين»، وخاصة في ما يتعلق بصفقة «الصواري 2» السعودية؛ فإثر فوزه بالرئاسة، عام 1995، اشتبه شيراك بأن جزءاً من العمولات المرتبطة بتلك الصفقة استُعملت سرّاً لتمويل الحملة الانتخابية لغريمه إدوار بالادور، ما دفعه إلى إصدار قرار كرئيس بوقف تسديد ما بقي من تلك العمولات للوسطاء السعوديين.
لكن زياد تقي الدين اكتشف أن شيراك استولى على تلك العمولات لاحقاً، بعد إبعاد الوسطاء الأصليين، عبر شركة سويسرية اسمها «Parinvest» وأخرى في جزر الباهاماس اسمها «Issham». يقول تقي الدين إن تحرياته كشفت أن الشركتين المذكورتين تابعتان لمجموعة «البغشان» السعودية، التي يديرها رجل الأعمال خالد البغشان، المقرّب من فيليب دوفيبلان. ويضيف أنه حين اكتشف ذلك، وجّه خطاباً طويلاً إلى رئيس الحكومة اللبناني الراحل رفيق الحريري، في تموز 1996«عبر صديقي فارس بويز» (وزير الخارجية اللبناني آنذاك). اشتكى تقي الدين للحريري ما لحقه من ضرر بسبب قرار صديقه شيراك الاستحواذ على تلك العمولات. فقام الحريري بتسديد مستحقات تقي الدين من تلك العمولات المقدرة بـ 130 مليون دولار (راجع الكادر أدناه).
أما علاقات تقي الدين بالمعسكر الساركوزي، فقد عرفت منعطفاً حاسماً، إثر قرار القاضي رونو فان رامبيك استدعاءه، في منتصف أيلول الماضي، للتحقيق معه في قضايا الفساد المرتبطة بصفقات الأسلحة الفرنسية مع السعودية وباكستان. الشيء الذي أربك المقربين من ساركوزي، وخصوصاً أن الخلافات المالية التي تفجرت بين تقي الدين وطليقته البريطانية نيكولا جونسون دفعت بالأخيرة إلى الانتقام من خلال إمداد موقع «mediapart»، الذي يديره رئيس تحرير «لوموند» السابق إيدوي بلانر، المعروف بعدائه الشديد لساركوزي، بالكثير من الصور والوثائق والمراسلات الشخصية التي تثبت ارتباط تاجر السلاح اللبناني (يرفض تقي الدين هذه التسمية في كتابه، ويقول إن تجار السلاح هم رؤساء الدول والحكومات، أما «نحن» فمجرد وسطاء) بصلات وثيقة مع عدد من أقرب معاوني ساركوزي، شأن وزير الداخلية الحالي، كلود غيون، وسلفه في الوزارة ذاتها، بريس أورتوفو، والأمين العام للحزب الرئاسي الموالي لساركوزي، جان فرانسوا كوبي.
لم يكشف زياد تقي الدين للقاضي أي أسرار محرجة عن أصدقائه الساركوزيين. لكن تسرّب تلك الوثائق إلى الصحافة، واستدعاء طليقته البريطانية من قبل قاضي التحقيق، وضع مستشاري الرئيس الفرنسي في موقف حرج اضطرهم إلى إنكار الصداقة التي تجمعهم بتقي الدين. وكان الأكثر حدّة في إنكار صلاته بـ«الصديق اللبناني الثقيل» هو كلود غيان، الذي قال لوسائل الإعلام في تشرين الأول الماضي، إثر إصدار القضاء الفرنسي قراراً باحتجاز كافة ممتلكات تقي الدين: «لست صديقاً لزياد تقي الدين، ولا تربطني أي صلة به، لأنه شخص يتصرف تصرفاً غير أخلاقي»، وهو ما أثار حفيظة تقي الدين، فكشف في كتابه أن غيون كان يستقبله في بيته «في حضور زوجته الطيبة، التي كان لا يخفي عنها أي أسرار». وذهب إلى حد القول إن وثوق الصلات بينه وبين غيون جعل هذا الأخير «يكوي بنطالي بنفسه، خلال إحدى زياراتنا العديدة إلى الرياض».
من الواضح أن زياد تقي الدين لم يكشف كل ما يعرف عن أسرار ساركوزي المالية، خشية أن ينعكس ذلك عليه شخصياً في التحقيق القضائي المتعلق بالفساد المرتبط بصفقات الأسلحة مع السعودية وباكستان. لكنه وجّه إشارات قوية إلى الفريق الرئاسي الفرنسي، للدلالة على أنه لن يصمت حيال «محاولات جعلي كبش فداء»، قائلاً في مقدمة الكتاب: « أنا رجل ظل بعيداً عن السيرك الإعلامي، لكنني غير متورط في أي ممارسات غير قانونية. لذا، لا أخشى على الإطلاق من كشف الحقائق». من بين الحقائق التي كشفها تقي الدين في كتابه عن «أسرار الساركوزية»، خفايا قضية إطلاق سراح الممرضات البلغاريات في ليبيا. كانت تلك أحد «الإنجازات الفاقعة» للدبلوماسية الساركوزية، بعد أسابيع قليلة من الفوز الرئاسي. في الظاهر، قُدِّمت القضية للرأي العام على أنها إنجاز إنساني حققته السيدة الأولى السابقة سيسيليا ساركوزي. كان ساركوزي يأمل أن يؤدي البريق الإعلامي الذي واكب إطلاق الممرضات بزوجته السابقة إلى التمسك بدور «السيدة الأولى»، والعدول عن رغبتها في الطلاق للزواج بعشيقها ريشار أتياس. لكن زياد تقي الدين يقول إن ما صوِّر على أنه إنجاز إنساني حققته السيدة الأولى، كان في الواقع مشروطاً بصفقة مالية سرية؛ إذ اشترط العقيد القذافي أن تدفع فرنسا 130 مليون دولار من التعويضات لـ«جمعية الأطفال الليبيين مرضى الإيدز». وبعد رفض الطرف الليبي اقتراحاً بأن يُقتطع ذلك المبلغ من عمولات الصفقات المستقبلية للشركات الفرنسية في ليبيا، واشتراط العقيد القذافي أن يكون الدفع قبل إطلاق الممرضات، يقول تقي الدين إنه اقترح على كلود غيون، الذي رافقه والسيدة الأولى الفرنسية السابقة إلى طرابلس، أن يطلب ساركوزي من صديقه أمير قطر أن يتولى دفع المبلغ المطلوب نيابة عن فرنسا. وبالفعل، اتصل الرئيس الفرنسي بالحاكم القطري، في الثانية من فجر 24 تموز 2007، وتعهد القطريون للقذافي تسديد المقابل المالي، ما مهّد لعودة السيدة الأولى إلى باريس، بعد ساعات، برفقة الممرضات البلغاريات. ويضيف تقي الدين أنه علم من عبد الله السنوسي، الرجل الثاني في نظام القذافي، أن المبلغ الذي سدّده القطريون لم يكن 130 مليون دولار، كما اشترط القذافي، بل 300 مليون. لكن «الوسيط اللبناني» لم يكشف المزيد عن مصير الفائض المقدَّر بـ170 مليون دولار: هل استولى عليه وسطاء ليبيون؟ أم حطّ سرّاً في جيوب فرنسية؟





الحريري وعمولات شيراك السعودية


إثر استحواذ جاك شيراك سرّاً على عمولات صفقة «الصواري» السعودية، يقول زياد تقي الدين: «فكرتُ في شخص مقرّب من الرئيس الفرنسي للتوسط في الأمر، وتبادر إلى ذهني اسم رفيق الحريري، صديق شيراك الحميم منذ 20 عاماً. لكن الأمير السعودي سلطان بن عبد العزيز لم يكن متحمساً لذلك في البداية، ثم أقنعناه أنا والشيخ علي بن مسلم».
بعد الشكوى التي أرسلها إلى الحريري، من طريق فارس بويز، يقول تقي الدين إن الحريري استدعاه إلى بيته في باريس، ووعده بمفاتحة شيراك في الأمر، لكنه طلب منه في المقابلة «خدمة صغيرة» تمثلت في التوسط لدى الأمير سلطان لصرف مستحقات متأخرة تتعلق بتشييد قصر بقيمة مليار و380 مليون دولار. ولا يخفي تقي الدين أنه فوجئ بضخامة المبلغ، لكنه وعد الحريري بالتوسط لدى الأمير. وبالفعل قبل الأخير بصرف المبلغ، رغم أنه قال إنه لم يكن راضياً عن الحريري؛ لأن أعمال تشييد القصر لم تكن بالجودة المطلوبة. اتصل بعدها الحريري بتقي الدين، ليؤكد له أنه تحدث مع شيراك، وأنه سيدفع له مستحقاته كاملة. لكن تقي الدين طلب من الحريري تعهداً مكتوباً، فأجاب: «لا يُعقل أن نطلب ضمانة خطية من رئيس الدولة الفرنسية. أنا سأكتب لك شيكاً بالمبلغ (130 مليون دولار)»، وهذا ما حصل.