يتذكر الفلسطيني محمد اسماعيل، أنّ المرة الأخيرة التي مشى بها على قدميه، كانت يوم توجه برجليه إلى المستشفى لبترهما، بسبب معاناته من مرض نشفان الشرايين. منذ ذلك الحين هو طريح الفراش، وخصوصاً بعدما بترت يداه أيضاً. يبدو الرجل شجاعاً في مواجهة مصيبته بعزيمة تتحدى قدره. رجل فوق الجراح، هكذا ينادونه في مخيم عين الحلوة. يتردد أبو شادي في الحديث إلى الإعلام كي لا تتحول مأساته إلى مادة «شحادة».
يقول: «خسرت أطرافي ولم أخسر كرامتي. لا أريد استدرار عطف أي إنسان كي لا أفقد قيمتي كإنسان». لا يخفي ترقبه ليوم يستطيع فيه تركيب طرفين يمشي مجدداً عليهما. انتماؤه إلى فلسطين يدفعه للتمني «لو ان ساقي بترت وأنا أعبر حقول ألغام في رحلة العودة إلى وطني فلسطين». أفكار كثيرة راودتنا ونحن متوجهون إلى منزل أبي شادي قرب سوق الخضر في عاصمة الشتات الفلسطيني. ترى ماذا سنقول لرجل فقد أطرافه الأربعة، وأي مواساة سنقدم له؟ شعور إنساني تقدم على ما هو مهني، مقابلتنا له فيها نكء لجراحه غير المندملة. في الطريق، طالعتنا ملصقات قديمة للجان الشعبية الفلسطينية، يسأل أحدها: «إلى متى يموت الفلسطينيون على أبواب المستشفيات وأين الضمير الإنساني؟». على سرير الآلام، يبتسم الرجل، يعطينا قوة نحتاج إليها. ومع ذلك فقد أطلعنا على مأساة فضفاضة تشبه الجلباب الذي يرتديه. حفيدته سارة جبر (5 سنوات) تتبرع لإعطائه كأس ماء قبل ان يبدأ برواية قصته. يشرح قائلاً: «عانيت من مرض التهاب حاد بالشرايين أصاب الأطراف، ثم انتقل الوجع من طرف إلى آخر. لكن نتيجة كل التحاليل الطبية والمخبرية من الصور الصوتية إلى التخطيط والتمييل الذي أجريته ثلاث مرات، كانت واحدة: «الشرايين مسكرة وناشفة وما عم يوصلها دم». وبدأت بعدها عمليات البتر «فكل شهرين أو ثلاثة كان يسكر طرف، والنشفان يزداد، فيما ازدادت أوجاعي ولم تعد محمولة».
في تشرين الثاني 2009، بترت يد اسماعيل اليسرى من زندها. كرت السبحة، «طرف ورا طرف»، فضربت في شباط 2010 ساقه اليسرى والتهبت لتبتر من قوق الركبة. بعد ذلك بثلاثة أشهر انتقل «النشفان» والوجع إلى قدمه اليمنى فبترت أيضاً من فوق الركبة، بعدما كانت أصابعها قد بترت تباعاً.
في تموز 2010، بتر آخر طرف فقطعت يده اليمنى أيضا من زندها، قبل أن يخضع الرجل في العام 2011 لعملية إزالة عظمة فخذه. هنا «تكسرت النصال على النصال»، يقول اسماعيل، مشيراً إلى أننا «وصلنا الى آخر الدواء أي الكي، وكان ذلك حتمياً لأنّ الدم لم يكن يجري في عروق الشرايين، وقد تسببت له بغرغرينا، فإما البتر أو الموت». قصة الشرايين ليست جديدة فمعاناة أبو شادي معها تعود إلى عشر سنوات حيث أجرى عملية قلب مفتوح وركب صمامين، أما دواء القلب والسيلان فيلازمانه ويواظب على تناولهما « كي يبقى الدم جارياً في عروقي».
يستعيض اسماعيل عن حركة الأطراف بإيماءات من عيونه وحاجبيه مستعيناً بحركة الرأس. صورة كبيرة للقدس طلب تعليقها في وجه «مأساة القدس تعينني على الصمود وتمنحني القوة والصبر». كلامه هذا يشي بأن مصيبته الشخصية تذوب في مأساة الفلسطينيين بصورة عامة. إرادة صلبة يتمتع بها رجل فقد كل شيء لكن لا تسعفه في إخفاء دمعة تسللت إلى خده في أثناء حديثه عن إمكان استعادته المشي بتركيب طرفين اصطناعيين لساقيه وأن خبيراً لبنانياً في تركيب الأطراف الاصطناعية أبلغه بأنّ كلفتهما 18500 دولار «وبترجع بتمشي وما حدا بيعرف انك مركب أطراف». في المقابل، تشير تقارير طبية إلى حاجة الرجل إلى 44 ألف دولار لتركيب أطراف أربعة. نكتشف في سياق الحديث أنّ سبب كلامه عن عدم استعداده لخسارة كرامته مرده إلى أنّ جمعيات عدة زارته ووعدته خيراً «وهذا وجهك يا ضيف»، لكنه يتفاءل بمساعدة محتملة من منظمة التحرير الفلسطينية، وسفارة فلسطين «كي لا أبقى طريح الفراش، وكي أستطيع أن أخدم نفسي بنفسي». إذا استطاع أبو شادي تركيب ساقين اصطناعيتين فسيكون مسروراً، لأنّ همه في الحياة هو أن يقدم لعائلته ما يؤمن لها عيشاً كريماً، «من دون أن أمدّ يدي لأحد». جملة كررها أكثر من مرة، إذ فاته أنّ يديه الاثنتين مبتورتان، فاستدرك «اذا صحّلي وركبت ايدين». يوزع حفيد اسماعيل عبيد قاسم (11 سنة) فناجين القهوة مرفقاً إياها بعبارة «بصحة سيدي (جدي)»، واضعاً أمامه فنجاناً «غير شكل» سيرشفه له، ومتذكراً كيف «كان جدي سائق سيارة أجرة يأخذني معه، ويعطيني خرجية، ويضمني بذراعيه»، متمنياً تركيب أطراف لجده، قائلاً: «بس لأكبر بدي اشتغل كتير وركب لسيدي أطراف، والله يشفيه»، عيون ابو شادي تتسمّر مجددا في صورة القدس، طالباً من أهل داره إشعال التلفزيون لمتابعة قضية الأقصى قائلاً: «المجتمع الدولي أصبح بلا ضمير وهو يتعمد ترك الفلسطينيين يموتون، وبتقلي إنو بدوهم يساعدونا». تأتي أخبار «مش كويسة» من المسجد الأقصى «تنرفز» أبا شادي فيطلب إشعال سيجارة راح يمجها على الرغم من أنّ «التدخين ممنوع». لكن اسماعيل لا يلتزم التعليمات الطبية «بدي شي اتسلى فيه، بدخن بالنهار علبة دخان، بفشّ خلقي بالدخان وهو مونسي». لا يبرح أبو شادي غرفته كثيراً، إلّا حيث يريد أن يخضع لجلسة العلاج الفيزيائي فبات، أخيراً، يخرج مرة في الأسبوع الواحد، «لا أخرج من المنزل إلّا عند الدكتور»، حتى عندما يشتبك المقاتلون داخل المخيم «أبقى في المنزل وشو بدو يصير فيي اكتر من اللي انا فيه، واسلم امري لله».
منذ أشهر لم يخرج «برات المخيم»، يقول: «قبل مدة قصيرة كسرت زوجتي قدمها، ونمنا عند ابنتي المتزوجة». وعن سبب ملازمته المنزل رغم وجود كرسي متحرك يقول أبو شادي: «أشعر بحزن شديد، لأنّ عيون الناس وتأثرهم بحالتي تطاردني»، قبل أن يبوح قائلاً: «يحز في نفسي أني كنت أسير على قدمي، كنت أروح وأجيء، والآن بت بلا أرجل وبلا أياد، هذا هو واقعي وأتعايش معه، رغم الجراح النفسية والمعنوية قبل الجسدية». يطلب اسماعيل من ابنه أحمد (18 سنة) وضع الجريدة أمامه ليتصفحها ويضرب عصفورين بحجر بحسب قوله «متابعة الأحداث وممارسة القراءة»، على الرغم من إجرائه قبل مدة عمليتين في عينيه لنزع «الماء الزرقاء». يبحث بشغف عما يقوله برجه «القوس»، ليس إيمانا بالتنجيم «بس بلكي في شي مفاجأة»، يقول ذلك بتهكم.
يبقى الأمل كبيراً بالمساعدة على تركيب ساقين وهي أكبر من آلامه وأوجاعه. بقي مصراً على الحديث عن عدم خسارته كرامته حتى اللحظة التي غادرنا فيها، أوصانا أبو شادي «اكتبوا منيح، اياكم أن تحولوا مأساتي إلى مادة للاستغلال، أو أن يفهم من كلامي أنني أريد التسول والشحادة، أفضل أن أموت مرفوع الراس».



محمد اسماعيل من مواليد السمرية فلسطين، رقم ملفه 68 وبيانه الإحصائي 19073، يسمونه في مخيم عين الحلوة «جمل المحامل»، لشدة ما يحمل من مصائب. يترحم بحرقة على ايام غابرة وهو يعرض صوره قبل بتر أطرافه. بدا في الصور شاباً طويل القوام. متزوج وله ثلاث بنات وولدان. يجزم جيران أبي شادي بأن وزير الشؤون الاجتماعية وائل أبو فاعور «صديق الفلسطينيين»، سيبلسم جراحاته.