تونس | في مطلع شهر شباط الماضي، أدلت وزيرة شؤون المرأة والعائلة التونسية، سهام بادي، بتصريحات غريبة، وصفت خلالها الزواج العرفي المحظور بموجب القانون التونسي بأنه «مسألة شخصية تندرج ضمن الحريات الفردية». قبل أن تتراجع لاحقاً، بعد الجدل الكبير الذي أثارته، مبرّرة تصريحاتها السابقة بأنها أرادت أن تمتحن ردود فعل المجتمع التونسي.
قبل ذلك، كان زعيم حركة «النهضة»، الشيخ راشد الغنوشي، قد أعلن غداة الفوز الانتخابي الذي حققه حزبه، في تشرين الثاني الماضي، بأن «تعدّد الزوجات أمر ممكن في تونس»، لكنه لم يلبث هو الآخر أن تراجع، وطمأن التونسيين بأن «لا نية لحركة «النهضة» في إعادة النظر في مجلة (قانون) الأحوال الشخصية، وما تكفله للمرأة التونسية من حقوق»، علماً بأن هذا القانون يحظر تعدد الزوجات.
ومع مطلع السنة الجارية، ضجّت وسائل الإعلام التونسية بظاهرة جديدة تمثلت في تفشي الزواج العرفي في الأحياء الشعبية والجامعات، لكن هذه المرة بين شبان الحركات السلفية؛ فظاهرة الزواج العرفي ليست جديدة تماماً على تونس، رغم أن القانون يجرّمها. اذ أشارت إحصائيات «جمعية أمل للعائلة والطفل» الى أن نسبة الولادات خارج مؤسسة الزواج الرسمية في تونس بلغت ما بين 1200 و1500 حالة في عام 2009، أي ما يعادل أربع ولادات في كل يوم. ووفقاً لتلك الإحصائيات، فإن غالبية «الأمهات العازبات»، اللواتي أنجبن خارج الزاوج هنّ من فئات الشباب المتحرّر اجتماعياً، ما بين الـ19 و الـ25 عاماً. مما يبيّن بأن الأمر كان مرتبطاً بتحرّر الأعراف الاجتماعية في تونس، حيث لم يكن الزواج العرفي (الديني) يشكل غالبية الحالات، بل كان الأمر يتعلق أساساً بشبان وشابات يقيمون علاقات متحررة من أي شكل من أشكال العقود الزوجية.
لكن الأمور تغيرت بعد الثورة، في ظل تنامي التيارات السلفية ثم وصول الإسلاميين المعتدلين إلى الحكم. مع وصولها إلى السلطة، تعاملت حركة «النهضة» ببراغماتية، وأحجمت عن المساس بقانون الأحوال الشخصية، لأسباب تكتيكية، بعدما أطلقت عدداً من بالونات الاختبار، بيّنت لها أن غالبية المجتمع التونسي تعارض التراجع عن «مكتسبات الإرث البورقيبي». لكن التيارات السلفية لها استراتيجية مغايرة، تتمثل في الترويج للزواج العرفي في الأحياء الشعبية والجامعات، حيث شهدت هذه الظاهرة تنامياً غير مسبوق، في الأشهر الأخيرة، وفقاً لتقارير المركز التونسي للأبحاث والدراسات والتوثيق والإعلام حول المرأة «الكريديف».
ويسعى السلفيون التونسيون إلى استغلال «حرب الفتاوى الدينية» لتشريع ما يجرِّمه القانون. ويستعينون لتحقيق ذلك بعدد من الدعاة المتشدّدين للعمل على إسقاط «مجلة الأحوال الشخصية»، بحكم الأمر الواقع، من خلال الترويج لمختلف أنواع العقود الدينية، التي يطرحونها كبدائل عن الزواج المدني، مثل «تعدّد الزوجات» و«زواج المسيار» و«الزواج العرفي».
ويبدو أن هذه الاستراتيجية بدأت تؤتي ثمارها، حيث تقدَّم أخيراً عدد من نواب «المؤتمر من أجل الجمهورية» (حزب الرئيس منصف المرزوقي) بمشروع قانون يهدف الى تقنين أشكال الزواج الديني، التي بدأت في الانتشار، من خلال إنشاء مؤسسة «المأذون الشرعي»، التي ستتولى رسمياً إبرام وتسجيل عقود الزواج الديني. وذلك بحجة محاربة الفوضى الإدارية والتصدّي باكراً للمشاكل الاجتماعية التي قد تتأتى على الأبناء، الذين يولدون من هذا النوع من الزيجات غير القانونية.
وقد أثار هذا المشروع حفيظة المؤسسة الرسمية التي تشرف على إبرام عقود الزواج المدني، والمتمثلة في جمعية «عدول الأشهاد» (الموثقين العدلين). ونظّم هؤلاء تجمعاً احتجاجياً أمام مقرّ المجلس التأسيسي، انضمت إليه العديد من الجمعيات النسائية والمنظمات الحقوقية، للتعبير عن رفضها لتقنين الزواج الديني بمختلف أشكاله، على اعتباره إخلالاً بالطابع العلماني للدولة التونسية، ويتنافى مع قانون الأحوال الشخصية، الذي يشترط في الزواج التوثيق والإشهار والعلنية وعدم التعدد. وقد نجح هذا الحشد الجماهيري الضخم، الذي استقطبته هذه الحركة الاحتجاجية، في دفع «حزب الرئيس» إلى التراجع وسحب مشروع قانون «المأذون الشرعي». وعلى الرغم من عودة أركان السلطة الجديدة في تونس إلى تكرار التطمينات بخصوص عدم المساس بأسس العصرنة والطابع المدني للدولة، فإن مشروع «مؤسسة المأذون الشرعي» لم يكن سوى حلقة ضمن مسلسل طويل يعتبره خصوم الحكومة الإسلامية «مشروع ردّة غير معلن»؛ فقانون «المأذون الشرعي»، الذي أُجهض، جاء بعد أقل من أسبوعين من منح وزارة الداخلية الترخيص القانوني لجمعية «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، المستنسخة عن نموذج «هيئة المطاوعة» السعودية. وكان لافتاً أن وزارة الداخلية، التي يشرف عليها القيادي النهضوي المعتدل علي العريض، لم تعترض على الطابع الظلامي لهذه الجمعية، التي تهدف لأن تكون بمثابة «شرطة أخلاق»، بل اكتفت بالمطالبة بتغيير اسم الهيئة إلى «الجمعية الوسطية للتوعية والإصلاح»، حتى «لا يُستغل تشابه الأسماء لمقارنتها بالنموذج الوهابي السعودي».
لم تقتصر المبادرات التي تشكّل تعدّياً على العلمانية والطابع المدني للدولة فقط في أمور الزواج وحقوق النساء، بل تعدّتها إلى سلسلة طويلة من الاستفزازات والاعتداءات على المثقفين والإعلاميين، والتضييق على الحريات. وشهدت الأسابيع الأخيرة تصعيداً غير مسبوق في التصريحات والمبادرات الحكومية الهادفة إلى «شيطنة المعارضين» ومحاولة تجريم الحركات الاحتجاجية.
بدأ ذلك بسلسلة من الاعتداءات التي طاولت عدداً من النقابيين المنضوين في إطار «اتحاد الشباب الشيوعي»، أواخر كانون الثاني الماضي، والتي نُسبت في حينه إلى السلفيين. لكن أركان «الترويكا الحاكمة» سرعان ما انضموا إلى مهاجمي النقابيين، الذين يتزعمون الاضرابات والاحتجاجات.



«مؤامرة يسارية»


لم تقتصر الهجمة على النقابيين والحقوقيين على الحركة السلفية، وانما انضمت اليها «الترويكا الحاكمة»، بحيث دعا النائب النهضوي في المجلس التأسيسي، الشيخ صادق شورو، إلى تطبيق «حد الحرابة» على المعتصمين، بحجة أنهم من «المفسدين في الأرض»، مستنسخاً بذلك الفتوى التي أطلقها مفتي السعودية، عبد العزيز آل الشيخ، ودعا فيها إلى قتل المشاركين في الحراك الشعبي بـ«القطيف» و«تقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف». ورغم ماضيه العريق في النضال النقابي والحقوقي، لم ينزعج الرئيس التونسي منصف المرزوقي من فتوى الشيخ شورو، بل برّرها في حوار تلفزيوني، قبل أسبوعين، بالحديث عن «مؤامرة يسارية» لتعطيل الاقتصاد وقلب نظام الحكم. وأكد أن بحوزته تقارير استخبارية بأسماء اليساريين المشاركين في هذه المؤامرة. وهو ما دفع زعيم «حزب العمال الشيوعي»، حمّة الهمامي، إلى تحدي المرزوقي بقبول مناظرة تلفزيونية من أجل كشف الحقائق. وخاطب الرئيس التونسي بالقول «الأجهزة الاستخبارية التي تزوّدك بهذه التقارير المؤامراتية هي أجهزة موروثة عن النظام الديكتاتوري المخلوع، ولم يتم تطهيرها بعد الثورة. ويجب ألا تنسى أنها الأجهزة ذاتها التي أرسلت لك امرأة مشبوهة في فندق بسوسة (قبل الثورة) لتلفيق تقرير يطعن في أخلاقك».