ضربت موجة تفجيرات متزامنة على شكل سيارات مفخخة وعبوات ناسفة وعمليات انتحارية بغداد وعدداً من مدن المحافظات الأخرى، أمس، كصلاح الدين وبابل وكركوك وديالى، وأسفرت عن سقوط أكثر من 400 قتيل وجريح بحسب بعض المصادر السياسية والإعلامية والطبية العراقية، عدد كبير منهم من المدنيين، إذ إن التفجيرات استهدفت، إضافة إلى مراكز للشرطة ودورياتها، مؤسسات مدنية كالمدارس والمطاعم والأسواق ومكاتب حكومية. موجة تفجيرات حصيلة ضحاياها هي الأكبر منذ إتمام الانسحاب الأميركي من العراق منتصف كانون الأول الماضي، وكثرت التفسيرات بشأن أهدافها وأبعادها، بين مَن هو مقتنع بأن هدفها الرئيسي إفشال انعقاد القمة العربية في عاصمة الرشيد، وخاصة أنه توافرت معلومات لدى الأجهزة الأمنية العراقية قبل أسابيع عن مخطط ترعاه الولايات المتحدة، على أن يكون تنفيذه سعودياً، يقضي بشن سلسلة تفجيرات قبيل انعقاد القمة العربية مع لائحة اغتيالات متداولة لعدة مسؤولين من الصف الأول والثاني في العراق، على ما يفيد مسؤول أمني عراقي رفيع المستوى. في المقابل، هناك من هو واثق من أنّ الغاية الرئيسية إعاقة حل الأزمة السياسية ـــ الطائفية ـــ القضائية التي انفجرت باتهام نائب الرئيس طارق الهاشمي بقضايا إرهابية. حلّ يفترض أن تجري بلورته في «المؤتمر الوطني العام» المقرر أن يجمع قريباً جميع قادة الكتل السياسية العراقية.
اختلفت الأسباب، وتبقى الخلاصات نفسها: القوات الأمنية العراقية غير قادرة على ضبط الأمن، والتوترات السياسية تعبّد الطريق لمزيد من التدهور الأمني ـــ الطائفي، إضافة إلى أن إمكان انعقاد القمة العربية في بغداد بات بالفعل محل شكوك كبيرة، وأخيراً تنظيم «القاعدة»، المتهم الأول، يعيش «ربيعه» الخاص، بعد «خريف» ظن البعض أنه لن تكون له قيامة من بعده. هكذا، جاء اتهام وزارة الداخلية لـ«القاعدة» بالوقوف خلف الهجمات التي «تأتي في سباق محموم تبذله جماعات الإرهاب للإيحاء بأن الوضع الأمني في العراق لن يستقر، كما تأتي في سياق سعي تنظيم القاعدة الإرهابي لتوجيه رسائل إلى أنصاره أنه لا يزال يعمل في الأراضي العراقية ولديه القدرة على توجيه ضربات في العاصمة والمدن والأقضية الكبيرة والصغيرة»، على حدّ تعبير بيان وزارة الداخلية.
وقامت الوزارة بدور عدّاد الجثث والتفجيرات، فقدّرت عدد العبوات التي فُجِّرت بـ22، في 19 منطقة في البلاد. وفي بغداد وحدها، قالت مصادر وزارة الصحة إن عدد القتلى والجرحى بالتفجيرات العشرة التي ضربتها بلغ 243. وقد جاءت موجة التفجيرات الجديدة بعد يوم واحد من تحذيرات أطلقها رئيس الوزراء نوري المالكي، وقال فيها إن السلطات الأمنية «رصدت نشاطات جديدة لمقاتلي تنظيم القاعدة، وإن هؤلاء عادوا إلى تنظيم صفوفهم» في منطقة «مثلث الموت» جنوب بغداد، التي كانت مسرحاً لعمليات مسلحة مرعبة على مدار عدة سنوات، وأخذت بالتلاشي قبل سنتين تقريباً. وقد تساءل محللون عن السبب في وقوع هذه السلسلة من التفجيرات المنسّقة التي تدل على أن «القاعدة» عاد ليمسك بزمام المبادرة، ويتحرك أين ومتى يشاء رغم وجود معلومات استخبارية مهمة كتلك التي أعلنها المالكي. أما الإطار الإقليمي الذي وضعته وزارة الداخلية لهذه التفجيرات الدامية، فجاء بفقرة في بيان الوزارة، نصّت على أن «الشعب العراقي بات يدرك أن تطورات الوضع الإقليمي والدولي ترخي بظلالها السلبية على استقراره وأمنه. فأهمية العراق الجيواستراتيجية وعمقه التاريخي والحضاري وأثره الجغرافي والفكري تجعل من قوى الظلام ومن يساندها حريصة على إقلاق استقراره وأمنه، لكي لا يستعيد حضوره ودوره المركزي في المنطقة». وفي السياق، كان لافتاً ما أدلى به رئيس البرلمان العراقي، أسامة النجيفي، الذي اتهم «جهات خارجية» لم يسمِّها بـ«الوقوف وراء تلك التفجيرات من خلال محاولتها تصدير مشاكلها الداخلية إلى العراق».
وبالنسبة إلى الإقرار بالعجز الأمني والحكومي، فقد جاء على لسان أعضاء لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب، التي اجتمعت على نحو طارئ لتقرر دعوة القادة الأمنيين في قيادة عمليات بغداد إلى جلسة استماع، بما أن سلسلة التفجيرات والهجمات الأخيرة «مؤشر خطير ودليل على عدم جهوزية القوات المسلحة العراقية». بدورهم، صبّ المواطنون وذوو الضحايا جام غضبهم على الحكومة والمسؤولين الأمنيين كالعادة، وربط عدد من المتدخلين الغاضبين أمام وسائل الإعلام بين الموجة الإجرامية من جهة، والخلافات السياسية التي تعصف بالكتل والزعامات السياسية من جهة أخرى.
وقد تزامنت هذه الموجة مع حدثَين مهمين؛ الأول هو صدور مذكرة اعتقال من محكمة محافظة بابل بحق وزير الداخلية السابق جواد البولاني وعدد من أقاربه بتهمة دعم مسلحين في الأحداث الشعبانية التي شهدتها محافظة كربلاء عام 2007، فيما قالت وكالة أنباء محلية أخرى أن المذكرة صدرت بحق اثنين من أقارب الوزير البولاني وليس بحقه هو. الحدث الثاني هو صدور قرار من محكمة التمييز الاتحادية، رُفِضَ بموجبه طلب نائب الرئيس طارق الهاشمي نقل محاكمته من بغداد إلى كركوك، بينما كشفت مصادر برلمانية أن محاكمة غيابية ستجري للهاشمي في بغداد، و«لن تستغرق أكثر من ثلاث جلسات يصدر بعدها الحكم على المتهمين». وكانت السلطات الأمنية قد اتهمت من سمّتهم «شبكة الهاشمي» بسلسلة من الهجمات المسلحة خلال الأيام والأسابيع الماضية. وكشف الوكيل الأقدم في وزارة الداخلية، عدنان الأسدي، عن استمرار هذه الشبكة بنشاطاتها المسلحة حتى بعد صدور مذكرة اعتقال بحق الهاشمي. لكن السلطات لم تُدْلِ حتى الآن بما يفيد بوجود علاقة بين «شبكة الهاشمي» وهجمات اليوم وتفجيراته. محلّلون سجّلوا أن هذه الهجمات ستترك تأثيراتها على مساعي حلحلة الأزمات السياسية التي تقوم بها الرئاسات الثلاث حيال قضية الهاشمي، لكنها ستكون تأثيرات مؤقّتة ولن تصل إلى درجة تغيير الاتجاه العام للوضع السياسي المرتبك والغارق في التشنجات.