القاهرة | أين اختفى «العيش»؟ هذه هي المسألة في مصر اليوم على ما يبدو. فـ «العيش»، أي الخبز في العامية المصرية، كان أول ما هتفت به تلك الحشود التي لا أحد يعرف حتى الآن كيف خرجت، في هتافها الأشهر في 25 كانون الثاني من العام الماضي: «عيش، حرية، عدالة اجتماعية». وإلى اليوم، لم يسقط «العيش» من هتاف الشعب بعد، مثلما أنّ الشعب لم يجد «عيشه».
هذا ربما لسبب بسيط هو أن شيئاً لم يتغير على صعيد الاقتصاد خلال عام مضى على خلع الرئيس حسني مبارك. وربما كانت الموازنة العامة للدولة عن العام المالي 2011 ـــــ 2012، وهي الأولى بعد الثورة، خير نموذج في هذا الشأن، وهي التي أعدّها سمير رضوان، وزير المال الأسبق في وزارة أحمد شفيق، ثم عصام شرف المقالَتين، وهو عضو سابق في الحزب الوطني المنحل. ورغم أن الرجل لم يملّ من تعريف نفسه كاقتصادي «كينزي» (نسبة إلى الاتجاه الذي وضعه الاقتصادي البريطاني جون مينارد كينز الذي دعم تدخلاً ما للدولة في الاقتصاد، ودعا إلى التوسع ورفع الأجور في مواجهة الأزمات الاقتصادية دعماً للاستهلاك)، إلا أن شيئاً في موازنته لم يدلّ على ذلك؛ فقد وعد رضوان بموازنة «توسعية» من حيث دور الدولة، قال إنّه سيموّلها من الاقتراض الخارجي، لكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة الحاكم رفض خطّته للاقتراض من الخارج، فتراجع على الفور عن تعهداته للشعب. وانتهى الأمر بإلغاء رفع الحد الأدنى للأجر للإعفاء الضريبي ـــــ الذي كان سيعفي مَن كان يحصّل حتى ألف جنيه من ضرائب الدخل ـــــ وليخفض حجم صندوق تدريب العمالة من ملياري جنيه الى مليار واحد، ولينخفض الإنفاق على التعليم من 55.7 إلى 51.8 مليار جنيه. حتى إن دراما الموقف شاءت أن تنخفض نسبة الإنفاق على التعليم في «موازنة الثورة» عن العام السابق، إذ إنها بلغت 3.2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2011 ـــــ 2012، بينما كانت في العام السابق 3.5 في المئة، وذلك في بلد تبلغ فيه نسبة التسرب من التعليم 27 في المئة، منهم عشرة في المئة لم يدخلوا أياً من مراحل التعليم قط، وفقاً لتقرير التنمية البشرية الصادر عن الأمم المتحدة.
كان الخيار واضحاً: إما الاقتراض الخارجي أو التقشف؛ فالحكومات المتعاقبة تجنّبت باستماتة أيّ حلول تتضمن إعادة توزيع الدخل على أي نحو، إذ اضطر رضوان مثلاً إلى التراجع عن اقتراحه بفرض ضريبة لا تتجاوز عشرة في المئة على توزيعات الأرباح، وصفقات الاستحواذ والاندماج في البورصة، بمجرد احتجاج مستثمريها، كما أنه رفض فرض أي شريحة اضافية على الضرائب على الأغنياء، وفرضت حكومته شريحة واحدة اضافية تبلغ خمسة في المئة لتصل بالحد الأقصى لضرائب الدخل إلى 25 في المئة من الوعاء الضريبي، الذي يزيد على عشرة ملايين جنيه سنوياً، بينما أبقى على 95.5 مليار جينيه كمخصصات في الموازنة لدعم المواد النفطية، التي يذهب معظمها إلى الشركات.
إلا أن المفارقة كانت في اعتراف رضوان نفسه بأن اندلاع الثورة جاء على خلفية سوء توزيع الدخل القومي. وقال الرجل في أحد مؤتمراته الصحافية في الشهور الأولى للثورة، إن بعثة البنك الدولي التي غادرت مصر صبيحة 25 كانون الثاني 2011، قبل ساعات من اندلاع الثورة، أعدّت تقريراً احتفت فيه بإنجازات الحكومة آنذاك على صعيد النمو، «لكن الثورة اندلعت بسبب سوء توزيع ثمار النمو» على حد تعبيره في حينها.
على كل حال، فإن إقالة سمير رضوان لم تغير شيئاً من الأحوال، بما أن خليفته، حازم الببلاوي، «تعهّد» منذ اللحظة الأولى «احترام» الموازنة العامة بلا تغيير، رغم أن إقالة سلفه أصلاً ضمن تعديلات شملت عدة حقائب وزارية، جاءت بسبب اعتصام شهر تموز الماضي، الذي رفع شعارات تطالب بإسقاط الموازنة العامة ورفع الحد الأدنى للأجور إلى 1200 جنيه (نحو 200 دولار أميركي).
كانت توجهات الببلاوي ـــــ الذي شغل منصب نيابة رئاسة مجلس الوزراء للشؤون الاقتصادية، إضافةً إلى وزير المال ـــــ واضحة هي الأخرى، لكونه كان المسؤول المباشر عن قرار الحكومة رفض استرداد شركاتها التي باعتها خلال حكم مبارك عبر صفقات فاسدة، بعدما أصرّ على طعن الحكومة بالأحكام القضائية التي أبطلت عدداً من عقود البيع على سبيل المثال، لكن الخصخصة كتوجُّه عام، يستحيل أن تُبطَل في ظل حكم المجلس العسكري، الذي يرأسه حسين طنطاوي، العضو في اللجنة الوزارية للخصخصة التي كانت مسؤولة عن نفس تلك الصفقات الفاسدة، وخصوصاً أنّ الرجل جاء لاحقاً بكمال الجنزوري رئيساً للوزراء بعد إقالة حكومة شرف؛ هو الجنزوري نفسه الذي تولّى المسؤولية عن عدد لا بأس منه من تلك الصفقات، التي أُبرمت خلال توليه رئاسة الحكومة.
إلا أن اللافت كان عودة حكومة الجنزوري إلى مسار الاقتراض، لكن دون أي وعود بالتوسُّع، أي إنها تعد بالاقتراض وبالتقشف معاً، بعدما أعلنت طلبها قرضاً من صندوق النقد الدولي، المسؤول بدوره عن توجهات الخصخصة والسوق الحرة خلال عهد مبارك وفق برامج سابقة للإقراض.
الأهم أن الحملة الشعبية لإسقاط الديون كشفت عن اقتراض جرى سراً خلال العام الماضي، بقيمة 1.2 مليار، بعدما رصدت مجلة «الإيكونوميست» ارتفاع حجم الدين الخارجي من 35 إلى 36.2 مليار دولار. وفي حال إبرام الحكومة لاتفاق بقرض قيمته 3.2 مليار دولار من صندوق النقد، ستكون حصيلة الاقتراض في سنة واحدة 4 مليارات، أي أربعة أضعاف متوسط الاقتراض الخارجي في ظل حكم مبارك.