«المسلحون الليبيون أصبحو شوكة في عنق الثورة»، بهذه العبارة اختصر الصحافي البريطاني، روبرت فيسك، المشهد الليبي بعد انهيار نظام العقيد معمر القذافي. مشهد يفتح الأوضاع، بعد عام على اندلاع الثورة، على احتمالات كارثية يدركها المسؤولون في الهضبة الأفريقية، وخصوصاً رئيس المجلس الانتقالي مصطفى عبد الجليل الذي حذّر مراراً من مخاطر حرب أهلية في البلاد.
الناشطون على الأرض الليبية، وبينهم أجانب، يسعون إلى التقليل من خطورة المشهد، مشيرين إلى أن «الأمور تسير نحو الأحسن، وأن الثوار لا يمثلون أي تهديد للأمن والاستقرار في البلاد»، معتبرين أن «التهديد الحقيقي يأتي من فلول وخلايا نائمة مؤيدة للقذافي وليس من فصائل الثورة». هذا على سبيل المثال رأي الناشط اللبناني، يوسف شعبان، الذي يقطن مدينة الغريان في الغرب الليبي. شعبان يرسم، في اتصال هاتفي مع «الأخبار»، خريطة توزّع القوى المسلحة، أو «الكتائب». ويوضح «أن الثوار يتوزعون على سرايا وكتائب منتشرة في المناطق والمرافق والقطاعات الحيوية والإنتاجية، وخصوصاً المتعلقة بمصادر الطاقة مثل النفط والغاز».
وعن وضع طرابلس، يقول شعبان إن «كتائب مصراتة والزنتان هي أقوى الكتائب وأكثرها حضوراً وتأثيراً في العاصمة، رغم أن أمن العاصمة بالكامل هو من مسؤولية المجلس العسكري لمدينة طرابلس بقيادة عبد الحكيم بلحاج»، الذي لم يتمكن من ضم هذه الكتائب إلى التشكيل الموحد الذي أعلنه بعد نهاية الثورة. ويشير شعبان إلى أن «ثوار مصراتة وثوار الزنتان هم الفصيلان الأقوى في المعادلة الليبية، نظراً إلى أن الزنتان (تقع على إحدى قمم الجبل الغربي، وتبعد 170 كيلومتراً جنوبي غربي طرابلس) هي من أوائل المدن التي انتفضت ضد النظام السابق، ومصراتة (مدينة ساحلية تبعد 200 كيلومتر شرقي العاصمة) صمدت في وجه القصف والحصار. وتميّز مقاتلوها بالشراسة أثناء السيطرة على العاصمة.
شعبان، المتفائل بمستقبل الثورة، لا يقرّ بوجود تجاوزات بين صفوف الثوار، ولا يرى انتهاكات لحقوق الإنسان في سجون الفصائل المسلحة، كما «تدّعي» منظمات دولية. لكنه يوضح لـ«الأخبار» أن الاشتباكات التي تحصل بين حين وآخر هي ليست بين الفصائل التي شاركت في الثورة، بل بين ثوار سابقين وفلول تابعة للنظام السابق. ويربط هذه التحركات بعمقها القبلي، حيث هناك مناطق انتعشت في زمن القذافي لا يزال الحنين يأخذها إلى عهده، مثل بني وليد والأصابعة وسبها وسرت وبعض مناطق الجنوب، حيث لا يزال هناك من يرى أن «الأخ القائد» لم يُقتل إنما «شُبّه لهم». لذلك تحركت بعض المناطق التي انتعشت في زمن القذافي وتحولت من حياة الرعي والبداوة إلى حياة مدنية ووظائف وامتيازات مالية ومعنوية، ضد دخول الثوار إليها لتمشيطها. واحتفظ أهلها بأسلحتهم وخلاياهم الموزعة على المناطق، والتي عادت لتخرج من غفوتها مع تصريح الساعدي القذافي الأخير عن انتفاضة قريبة ضد السلطة الحالية أو «عملاء الناتو»، كما يصفونها.
وبالعودة إلى كتائب مصراتة، فقد دخلت هذه الكتائب التاريخ من بابه الواسع، أثناء حصار كتائب القذافي لمدينتهم، حيث كانت تبتكر أسلحة محلية الصنع لاستمرار المواجهة، وكان لعناصرها السبق في اقتحام مدينة طرابلس في آب 2011، وبعدها في حصار موكب العقيد الراحل وربما قتله، ثم احتفاظها بجثته إلى جانب جثتي نجله المعتصم ووزير دفاعه أبو بكر يونس في براد للفاكهة في مصراتة قبل دفنها في مكان مجهول وسط الصحراء. ثوار مصراتة الذين فقدوا أحد أبرز قادتهم، آمر الكتيبة الدفاعية عبد المجيد مازق في اشتباكات حصلت الشهر الماضي للسيطرة على مبنى الاستخبارات السابقة في شارع الزاوية مع عناصر المجلس العسكري لمدينة طرابلس، استأثروا بالعديد من المقتنيات والمعالم التي كانت في العاصمة وفي باب العزيزية، ونقلوها إلى مدينتهم الساحلية.
لقد أضحى من الواضح أن ثوار مصراتة، إلى جانب ثوار الزنتان، أصبحوا يمثّلون بيضة القبان على الخريطة «الميليشيوية» لليبيا. ففيما كان للأولين السبق في قتل القذافي والمعتصم ويونس، كان للزنتانيين السبق في اعتقال سيف الإسلام القذافي في تشرين الثاني الماضي في جنوب البلاد، ولا يزالون حتى الآن يحتفظون به كأسير، مع مراعاتهم للتقاليد القبلية في ذلك.
ومقاتلو الزنتان الشرسون ينتمون إلى قبائل غربية مثل أولاد خليفة، وأولاد أبو الهول، وأولاد ذويب، والعميان. ويسيطر هؤلاء المقاتلون الآن على مطار طرابلس وبعض المنشآت الحيوية، وعلى منتجع الريغاتا على الطرف الغربي للعاصمة، الذي كان يضم منازل خاصة بأبناء القذافي. وعُرف قائدهم محمد علي مدني الذي قتله عناصر القذافي، في الصيف الماضي، بأنه منظّم ومخطط استراتيجي عمل على تعزيز الروابط بينهم.
يقود الزنتانيين اليوم المهندس المدني عبد الله أحمد ناكر الزنتاني، الذي انضم إلى الثوار وألّف مجموعة مسلحة للحفاظ على الأمن في العاصمة تحت اسم مجلس ثوار طرابلس «لحماية ممتلكات الشعب الليبي ومصالحه». الزنتاني الذي أعلن أن القوة التي يقودها تضم 22 ألف مسلح ينتمون إلى 73 فصيلاً، كان أول من اعترض على إناطة مهمات أمن العاصمة بعبد الحكيم بلحاج من قبل المجلس الوطني الانتقالي.
وبدت الخلافات بين الرجلين كأنها انعكاس لصراع برز على السطح بعد تحرير ليبيا مباشرة بين الليبراليين والإسلاميين، حيث ذكر محلل صحافي في طرابلس، طلب عدم نشر اسمه، أن تصريحات ناكر التي تساءل فيها عمّن عيّن بلحاج قائداً للمجلس العسكري، تشير إلى أن ناكر مؤيّد للرجل الثاني المستقيل من المجلس الوطني محمود جبريل. فجبريل الذي كان يشغل منصب رئيس الوزراء المؤقت، هو من التكنوقراط الذين ينظر إليه الإسلاميون بريبة.
والإسلاميون اليوم في ليبيا، الذين يتولى قيادتهم الروحية الشيخ المدعوم من قطر علي الصلابي، ولّوا أمور البلاد العسكرية إلى بلحاج الذي كان زعيماً للجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، القريبة من تنظيم القاعدة، قبل أن تعتقله الاستخبارات الأميركية والبريطانية وتسلمه لنظام القذافي، حيث أجرى في سجونه مراجعات على فكره الجهادي ليتبنّى في ما بعد الإسلام «المعتدل». وبلحاج خاطب العلمانيين بلغة أكثر حدة، محذراً إياهم من محاولات تهميش الإسلاميين،. وكتب في صحيفة «الغارديان» قائلاً «إن قصر النظر السياسي لدى هؤلاء الذين يحاولون استبعادنا يجعلهم غير قادرين على رؤية المخاطر الضخمة جرّاء هذا الاستبعاد».
ورغم دعم السلطات والدول «الصديقة» للمجلس العسكري، يصرّ ناكر الزنتاني على أن جماعة بلحاج ليست كبيرة بما يكفي، وأن قوات مجلس ثوار طرابلس التي يقودها هو تسيطر بالفعل على 75 في المئة من العاصمة، وذلك في حديث صحافي أجري معه في مطلع تشرين الأول الماضي.
وكغيره من قادة الفصائل المسلحة التي تطالب بإنصافها حين يجري تقاسم كعكة السلطة والمناصب، يقول الزنتاني إن مجلس ثوار طرابلس سيُحل عندما تنهض مؤسسات الدولة وتباشر عملها من جديد. لذلك سارع إلى حجز مقعد على قطار العملية السياسية الجارية على قدم وساق، وأعلن خوض معترك العمل السياسي من خلال تأسيس حزب سياسي جديد باسم «حزب القمة».
وإضافة الى التباينات الفكرية بين إسلاميين وليبراليين، وبين أصوليين وعلمانيين وقوميين، وتضارب مصالح سلطوية ومادية بين فئات متعددة، هناك طابع قبلي للخلافات الدائرة في الهضبة الأفريقية. فقد أسفرت المعارك المسلحة بين القبائل في جنوب شرق ليبيا الصحراوي، هذا الأسبوع، عن سقوط ثلاثين قتيلاً منذ الأحد الماضي.
ويتهم أفراد قبيلة التبو، الذين عانوا من التهميش في ظل سلطات العهد البائد، الحكومة الحالية بدعم قبيلة ازويه الذين تلقّوا تعزيزات بالأسلحة والرجال وصلت جواً إلى الكفرة (2000 كيلومتر جنوبي شرقي طرابلس). وكان أربعة أشخاص قتلوا خلال اشتباكات وقعت في بني وليد (معقل سابق لمؤيدي القذافي)، الشهر الماضي، ما يعني أن القبائل لا تزال تمثل صمام أمان الوضع في ليبيا، نظراً إلى كونها انقسمت بين من يدعم القذاذفة ومن يقف ضدهم. لكن في المقابل عزز عقلاء هذه القبائل لجان المصالحة في العديد من المناطق الليبية، من أجل تطويق محاولات الأخذ بالثأر والانتقامات التي تأتي على خلفيات الأحداث التي شهدتها البلاد على مدى عام كامل.
وما لم تعالج الجهات المسؤولة وضع هؤلاء الذين كان لهم الفضل الأول في تحرير ليبيا، بدمجهم في القوى الأمنية (جرى استيعاب 5000 عنصر حتى الآن)، فستستمر عمليات النهب والسرقة والاعتداءات والانتهاكات التي تُرتكب باسم الثورة.



العفو تتّهم الميليشيات


اتهمت منظمة العفو الدولية الميليشيات الليبية بارتكاب انتهاكات واسعة النطاق لحقوق الإنسان، وعرقلة بناء مؤسسات الدولة. وقالت، في تقرير أصدرته أمس بعنوان «الميليشيات تهدد الآمال في ليبيا الجديدة»، إن الميليشيات المسلحة «ارتكبت انتهاكات خطيرة، بما في ذلك جرائم حرب ضد أنصار العقيد معمر القذافي، واحتجازهم بطريقة غير قانونية، وتعذيبهم، وفي بعض الحالات حتى الموت». وأشارت إلى أن ما لا يقل عن 12 معتقلاً توفوا تحت التعذيب منذ أيلول الماضي، وسُحبت مسامير من بعضهم. وقالت كبيرة مستشاري المنظمة دوناتيلا روفيرا «إن الميليشيات في ليبيا هي خارج نطاق السيطرة... كذلك فإن غطاء الإفلات من العقاب الذي تتمتع به يشجعها على ارتكاب المزيد من الانتهاكات وإدامة أجواء عدم الاستقرار وانعدام الأمن».
(يو بي آي)