اقتحم الجدل البيت الداخلي حينما عبّر السيد حسن نصرالله عما يشعر به، وأشار في خطاب قريب إلى أن مظلومية اليمن تخطّت في جزء منها مظلومية الشعب الفلسطيني. لن نراجع أياً من كلام متقني «الصيد في الماء العكر» الذي صدر آنذاك. لكن بعض المحبين لنصرالله، رأوا أن السيد «لم يصبْ» حينما وضع هذه «المقارنة»، علماً بأنه لم يطرحها من الناحية الاستراتيجية أو رؤية حزب الله، ولم يقل أحد من الحزب إن هذا يعني أن «ظلم ذوي القربى»، سينهي العداء لإسرائيل.
في الغالب، لا يتاح للسيد التعبير عن شعوره الشخصي، لأن كل ما يقوله يُنظر إليه على أنه رأي حزب الله، مع أن المتأمّل في طريقة تقديم السيد جملته، بالإشارة إلى حياته الشخصية وكم بلغ من العمر والمراحل التي مرّ بها في مقاومة الظلم، يمكنه استخلاص أن حديثه عن «مظلومية اليمنيين» رأي شخصي لا يلزم أحداً. لكن، كيف يكون للسيد رأي وكثيرون يحمّلونه في ما يقوله دائماً، ما لم يرده؟
اسم اليمن لم يكن يتردد كثيراً في فلسطين قبل حرب السعودية، ولا حتى خلال «ثورات العرب»، مقارنة بالاهتمام بتونس وبمصر وبليبيا وأخيراً بسوريا. ما أذكره أن ثمة مشروعاً لبناء مستشفى في شمال قطاع غزة باسم «اليمن السعيد»، بدأ تقريباً عام 2010 وقيل إن تمويله كان بمبلغ عشرة ملايين دولار. استغرب كثيرون كيف يمكن لليمن برغم فقره أن يتبرع لغزة بها. ثم غابت أخبار هذا المستشفى بعدما بدأ «الربيع العربي» ودخل اليمن في دوامة بات لا يمكن فيها لأحد المساءلة.
لعلّ قضية هذا المستشفى، وبدايتها وما وصلت إليه، تشبه علاقة الفلسطينيين باليمنيين. لا نعرف الكثير عن هذا البلد وأهله. وهو ما يثير الاستغراب الحقيقي من جهاتٍ سياسيّة كبيرة جرّت معها قطاعات واسعة من الشعب الفلسطيني، في موقفها من العدوان السعودي على اليمن. تجرأتُ أكثر من مرة وسألت بعشوائية في بداية الحرب، بعض الإعلاميين الفلسطينيين، بحكم عملي في الإعلام الفلسطيني لسنوات، «ماذا تعرف عن الحوثيين؟ ما هي مشكلة الحراك الجنوبي ومطالبه؟ هل لديك فكرة عن علاقة السعودية باليمن طوال حكم صالح وقبل ذلك؟»... عبْر الإجابات، تُفاجأ من الطريقة التي يبنى فيها موقف عن بلد وشعب بكامله، لا نستطيع أن نكتب عنهم أكثر من خمس جمل؟
أكثر من ذلك، باعتبار أنّ لدى الذاكرة الجمعيّة (المشكّل الأساسي للوعي الجماعي)، إمكانية لتصديق «الجزيرة» و«العربية» في حال نقلها خبراً عن «قصف النظام السوري سوقاً شعبية»، وذلك بناء على ما رُوي تاريخياً عن قمع «انتفاضة الإخوان»، لكن، كيف يمكنك أن تصدق أو تكذّب خبراً، يقول إن الحوثيين يقصفون منازل المدنيين في تعز أو مدينة أخرى؟ بناء على أيّ فكرة أو ذاكرة أو تصوّر؟ لم أجد بين كثيرين إجابات واضحة أو متيقّنة، على الأقل، مما تقوله. كل الفكرة أن أي شخص له علاقة بإيران مدانٌ حتى لو ثبتت براءته. ولعلّها لعْنة الإدانة نفسها التي لن تتخلص منها كل القوى الفلسطينية المتصلة بعلاقة مع إيران، وصارت اليوم تلهث لهث الذليل لتصل حبل الودّ بالسعودية.
أكثرهم «شجاعة» ووضوحاً كان محمود عباس. لقد اختصر القضية، أينما تكون السعودية نكون، ونحن مع ما تفعله... حتى لو هدمت الكعبة. وكل الذين وقفوا موقف عباس، عجيبٌ كيف يتغنون بحبّ ياسر عرفات، وفي آنٍ يؤيدون عباس. هم أنفسهم قبل أيام كانوا يتغنون بما كشفه شاؤول موفاز عن «مؤامرة عرفات ــ إيران»، لجلب السلاح إلى غزة والحرس الثوري إلى الضفة... واليوم يثقون بسلمان وعياله.
أما «حماس»، المكوّن الثاني كُبراً، فأطلقت بياناً واحداً منذ بدء الحرب على اليمن ولم تثنّ عليه، كأنّ هناك من قال شيئاً ونسي عما تحدث، فيما كان قياديوها يسهبون بالحديث عما يجري في سوريا، أحياناً بالهجوم، وأخرى بتأكيد «كذبة الحياد».
بعيداً عن الجدال في قضية مظلومية اليمنيين، وهل يستحقون في أسوأ الأحوال، ولو كان «أنصار الله» مخطئين، كل هذا العقاب وتدمير البنى التحتية والبيوت والمدارس والمستشفيات والآثار... ماذا ننتظر من فصائل باعت رفيق السلاح، حزب الله، عند أقرب موقف سعوديّ!
نرجو أن يسامحنا اليمنيون مجدداً. وليعلموا أن بين أهلنا كثيرين يقدّرون حقيقة تضامنكم معنا وأنتم الفقراء حالكم حالنا. حتى في قضية التضامن، فالشعب الفلسطيني، مثلاً، يتضامن معه كثيرون، وهو أمر مشكور، لكنه لم يؤتِ ثماراً مثلما «تضامن» حزب الله وإيران وسوريا معنا بالسلاح، وإنما يبقى موقفاً للتاريخ نسجله، ولن يعفينا التاريخ إذا لم نفعله معكم. والله، بتنا لا ندري بأي وجه سنطالب العالم بأن يتضامن معنا ــ في غزة ــ في أي حرب إسرائيلية مقبلة، لا قدّر الله.
نعم، مظلومية الشعب اليمني أكبر من مظلومية الشعب الفلسطيني، لسبب واحد وحيد ــ وفق رأيي ــ هو أن الشعب المظلوم منذ 67 عاماً في فلسطين وأكثر، وذاق ويلات مختلفة ويعرف تماماً ما معنى أن تُقصف وتموت وتفقد أولادك بين يديك، وحدك... قرّرت قياداته نيابة عنه وباسمه، أن تظلم اليمنيين، وتسكت عن الحق لأكثر من عام، سكوت شيطان أخرس أصمّ.