الخرطوم | تنفّس السودانيون الصعداء، بعدما أعلن مفاوضو الاتحاد الأفريقي في أديس أبابا، أول من أمس، أن الخرطوم وجوبا وقّعتا «اتفاق عدم اعتداء». ووفقاً لما كشفه رئيس الآلية الأفريقية، الرفيعة المستوى، رئيس جنوب أفريقيا السابق، ثابو أمبيكي، اتفقت حكومتا السودان وجنوب السودان أيضاً على «مواصلة الحوار حول ما بقي من قضايا عالقة بين الطرفين». ورغم افتقاره إلى التفاصيل العملية والإجرائية الكفيلة بضبط آليات تباحث وحلحلة القضايا الخلافية بين البلدين، إلا أن «اتفاق عدم الاعتداء» استقبل بالكثير من التفاؤل، داخلياً وإقليمياً، لكونه يأتي بعد موجة من الحرب الكلامية التي بدأت تأخذ منحى أقرب إلى الدعاية التي تمهد لقرع طبول الحرب بين البلدين. لكن الاتفاق أثار الكثير من التساؤلات، إذ لم يوقّعه رئيسا الوفدين المفاوضين: إدريس عبد القادر، من السودان، وباقان أموم، من جنوب السودان، بل جرى التباحث به على مستوى اللجنة السياسية ـــــ الأمنية المشتركة، وهي آلية تقتصر صلاحياتها على معالجة القضايا الأمنية والسياسية ذات الطابع الآني، بعيداً عن القضايا الرئيسية العالقة، وفي مقدمتها الخلافات على منطقة أبيي وعلى النفط والحدود.
وكان عمل هذه اللجنة المشتركة مرتكزاً من قبل على مراقبة الحدود وضبطها، وفتح نقاط عبور مشتركة لتنظيم حركة البضائع والبشر بين السودان وجنوب السودان.
وبالرغم من الحفاوة التي استقبل بها الاتفاق، إلا أنه لا يعدو أن يكون نسخة منقحة من اتفاق سابق وقّعته اللجنة ذاتها، نهاية العام الماضي، في الخرطوم. وكان لافتاً أن الاتفاق الأول حضره آنذاك وزراء الدفاع والداخلية والأمن في جنوب السودان، إلى جانب نظرائهم من السودان. لكن الوزراء الجنوبيين الثلاثة غابوا عن اتفاق اديس أبابا، وناب عنهم مسؤولون إداريون أقل منزلة انتدبوا للتفاوض مع وزراء الدفاع والداخلية والأمن السودانيين. الشيء الذي دفع وفد الخرطوم إلى رفض دخول المفاوضات في البداية، لولا الإصرار الشديد من قبل وفد الوساطة الأفريقي.
ونجح رئيس جنوب أفريقيا السابق أخيراً في إقناع الطرفين بالتوقيع على اتفاق عدم الاعتداء، بالرغم من هذا الخلل البروتوكولي. وقد أثار غياب وزراء دولة الجنوب تفسيرات وتساؤلات متباينة، وخصوصاً أن الوسطاء الأفريقيين قالوا إن الاتفاق يمهد لبدء جولات أخرى من المفاوضات حول النفط وبقية القضايا العالقة. ويشكك الكثير من المراقبين في قدرة هذا الاتفاق على تصفية الأجواء فعلياً بين الخرطوم وجوبا، لإفساح المجال لحل القضايا الخلافية الشائكة بين البلدين على نحو تفاوضي. وكان لافتاً أن رئيس وفد مفاوضي جنوب السودان، باقان أموم، صرح، قبل ساعات من سفره الى أديس أبابا، بأنه ذاهب ووفده للتفاوض، «لكننا لا نتوقع أي جديد يذكر». وأضاف إنه يتوقع أن تشهد بعض الملفات الخلافية بين الدولتين «انفراجاً بسيطاً»، لكنه استبق المفاوضات بالقول إن حكومته لن تتنازل عن أكثر من 79 سنتاً عن كل برميل نفط يتم تصديره عبر أراضي الشمال. وهو سعر تعدّه الخرطوم بخساً، وتطالب بحصة لا تقل عن 36 دولاراً للبرميل، الشيء الذي يبين عمق هوة الخلافات بين الطرفين.
وإذا نظرنا إلى أهم القضايا العالقة بين الجارتين المتشاكستين، الخرطوم وجوبا، نجد أنها إما قضايا خلافية نتجت مما يعتبره الكثيرون قصوراً في اتفاق السلام الشامل الذي وقّع بين الشمال والجنوب في عام 2005، مثل قضايا تقاسم النفط بعد الانفصال، أو إشكالات ناجمة عن خلافات في تفسير نصوص ذلك الخلاف، كما هي الحال بالنسبة إلى ملف أبيي. وقد قفز ملف النفط أخيراً إلى الواجهة، بعدما كانت مسألة أبيي تمثل أهم القضايا العالقة، إلى جانب المناطق الخمس الحدودية المختلف عليها. وأسهمت الفجوة الهائلة، التي وجدت الخرطوم نفسها فيها بعد انفصال الجنوب، في تموز من العام الماضي، في دفع ملف النفط إلى الاحتقان، حيث فقد السودان ما يقارب 76 في المئة من عائداته من النقد الأجنبي، وهو ما يعادل 36 في المئة من الدخل القومي. أما جوبا، التي يمثل النفط 98 في المئة من اجمالي عائداتها، فإنها دخلت مطبّاً اقتصادياً متأزماً، إثر قرارها وقف ضخ النفط بحجة ما تعتبره حكومة جنوب السودان عمليات نهب يتعرض لها من قبل حكومة الشمال. وهذا الوضع أشعل بينهما حرباً اقتصادية مرشحة للتفاقم، وخاصة أن وقودها هو النفط الذي يمثل عصب حياة الدولتين المنهكتين اقتصادياً.
وما يرشح الأمور لمزيد من الاحتقان أن الغريمين السابقين «المؤتمر الوطني» الحاكم في الشمال و«الحركة الشعبية» الجنوبية، شريكته في الحكم قبل الانفصال، كلاهما بدأ سلفاً بإعداد العدة لمرحلة ما بعد الانفصال، بمراكمة المطبات والمنزلقات لإفشال تجربة الآخر بعدما أصبح لكل شطر من شطري السودان دولته. ولا يقتصر الأمر على الحرب الاقتصادية المعلنة، بل يحاول كل طرف أن يدعم سراً حركات مناوئة لإضعاف الطرف الآخر من الداخل. كل هذا يوضح أن اتفاق عدم الاعتداء الأخير لم ينزع فتيل الاحتقان نهائياً بين البلدين، وأن طبول الحرب الاقتصادية لن تهدأ ما لم تتم تسوية الخلافات النفطية والحدودية الشائكة التي لا تزال مستعصية على الحل، رغم كل جهود الوساطة
الأفريقية.