الجزائر | يشبه وضع الجزائر هذه الأيام، إلى حدّ كبير، وضعها في بداية التسعينيات؛ فقد عاد الحديث عن احتمال فوز الإسلاميين بغالبية برلمانية تخوّلهم قيادة حكومة من نوع جديد لم تعهده البلاد. الأجواء في بلد المليون شهيد تبدو كأنها لم تتغير كثيراً، رغم مرور عقدين خلّف خلالهما الصراع المسلَّح نحو 200 ألف قتيل، وتركت تجربة سنوات الإرهاب أخاديد عميقة ومؤلمة في المجتمع، وتسببت في تراجع أداء الاقتصاد بما يعادل عشرين عاماً بفعل الخسائر التي فاقت 80 مليار دولار. كل هذا فضلاً عن الحصص المتزايدة التي خُصصت لميزانيات الأمن والجيش على حساب التنمية.
الجزائر اليوم تعود إلى مثل الوضع الذي أدى إلى تفجير الأزمة عام 1991: رئيس جمهورية من «جبهة التحرير» يستعدّ لقبول حكومة ذات غالبية إسلامية، لكن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بخلاف الشاذلي بن جديد، مُطالَب اليوم بالتكيّف مع الأوضاع الإقليمية الجديدة، على غرار ما فعله الملك المغربي محمد السادس، وذلك يكون بموافقته على إسناد رئاسة الحكومة إلى إسلامي، مثلما حصل في المغرب، مع الإسلامي المعتدل عبد الإله بنكيران. ويبدو أن النظام الجزائري بدوره يسير نحو استلهام تجربة «المساكنة السياسية»، التي ابتدعها الرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتيران في منتصف الثمانينيات للتعايش مع المعارضة اليمينية التي امتلكت الغالبية البرلمانية.
بالعودة إلى أحداث مطلع تسعينيات القرن الماضي، وقبل شهر واحد من ظهوره على شاشة التلفزيون، مساء 11 كانون الثاني 1992 شاحباً وحزيناً، لينطق بصعوبة بعبارات وداعه لكرسي الرئاسة، ظهر الرئيس الشاذلي بن جديد بوجه مغاير تماماً. في حينها، بدا قوياً وأنيقاً ومبتسماً في مؤتمر صحافي ضخم أعلن فيه أنه سيضمن احترام نتائج الانتخابات البرلمانية المقررة بعد أيام، وأنه سيبقى رئيساً لجميع الجزائريين بغضّ النظر عن نتيجة الاقتراع التي قال إنها لا تعنيه «لأن كل المرشحين جزائريون ومن أحزاب شرعية، ويحق لأي منهم أن يكون عضواً في الهيئة التشريعية». ارتكزت قوة الرئيس بن جديد في ذلك الخطاب على ثلاثة رجال أقوياء من أركان النظام، اثنان منهم عسكريان، وهما الجنرال العربي بلخير، مدير الديوان الرئاسي، الذي كان يوصف بـ «الحاكم الفعلي» للبلاد، والجنرال خالد نزار، وزير الدفاع. أما الرجل الثالث، فكان سيد أحمد غزالي، الدبلوماسي الذي أوصلته احتجاجات الإسلاميين إلى رئاسة الحكومة بعدما أطاحت الإصلاحي مولود حمروش. في حينها، وعد غزالي، في أول تصريح له بعد توليه الحكومة، بأنّ مهمته الأساسية ستكون «تنظيم انتخابات حرة ونزيهة». هؤلاء الثلاثة هم من شجّعوا الشاذلي بن جديد على التعجيل بالانتخابات، رغم مطالبة قطاع واسع من الضباط بتأجيلها واعتماد «مرحلة انتقالية على الطريقة البولندية»، وذلك من أجل ترسيخ أسس الانتقال السلس والسلمي للسلطة. وقد زيّن الرجال الثلاثة لبن جديد المسألة بوصفها الطريق الأكثر ضماناً لتجنيب البلاد الانزلاق نحو العنف والفوضى، مع التأكيد أن الانتخابات ستؤدي إلى نتائج متوازنة لن تسمح للإسلاميين باكتساح الساحة. راهن أصحاب تلك التوقعات على أن الناخبين لن يقترعوا للإسلاميين لأن تسييرهم للمجالس المحلية، على مدى 18 شهراً، كان فاشلاً ومليئاً بالأخطاء والتناقضات، لكن الجنرالين والدبلوماسي المذكورين أغفلوا عنصراً مهماً في المعادلة، وهو «الاقتراع الثأري» الذي دفع بغالبية الناخبين الجزائريين إلى التصويت للإسلاميين من باب «تأييد عدو العدو، حتى إن لم يكن صديقاً». جاء ذلك انتقاماً من سياسات الإجحاف السياسي والاقتصادي التي مارستها الشلة المحيطة بالرئيس بن جديد، من الحاشية السياسية والعائلية والجنرالات وبارونات الفساد الإداري.
سار الرئيس بن جديد وفق الخطة التي زيّنها له محيطه، فأوصله ذلك إلى طريق مسدود، اضطره إلى التخلي مكرهاً عن السلطة، وذلك بعد 13 عاماً قضاها في الحكم. فماذا سيفعل الرئيس بوتفليقة اليوم، وهو يواجه وضعاً مشابهاً؟ سؤال وجيه، وخصوصاً أن الرئيس الحالي مُحاط بالحاشية ذاتها من المتنفّعين والعسكر والبيروقراطيين، بينما حركات الاحتجاج الاجتماعي والتذمر الشعبي تزداد حدة وتفاقماً، ما يهدَِّد مجدداً بشبح «الاقتراع الثأري».
اليوم، يسود إجماع بين المتتبعين للشأن الجزائري على أن الشروط والدوافع التي أدت إلى فوز «جبهة الإنقاذ» الإسلامية بالغالبية المطلقة في الانتخابات الملغاة، قبل 20 عاماً، لا تزال قائمة، بل تعززت تلك العوامل بعناصر جديدة جاءت بها التحوّلات الإقليمية والدولية، مع الإشارة إلى أن غالبية الجزائريين ناقمون على السلطة بسبب تفشي الفساد وسوء الإدارة والظلم السياسي وعدم التكافؤ في تقاسم ثروات البلاد.
من جهة أخرى، الحركات الإصلاحية التي تمخض عنها «الربيع العربي» تفرض على الرئيس بوتفليقة أن يتبنى خطاباً شبيهاً بذلك الذي اعتمده بن جديد عام 1991، أي التعهد باحترام نتائج الانتخابات، بالتالي، سيتحتّم على بوتفليقة أن يلتزم بالتعايش مع حكومة اسلامية، إذا قرر الناخبون منح الإسلاميين الغالبية. فهل سينجح مثلما فعل الرئيس الفرنسي ميتران في اجتياز امتحان «المساكنة السياسية»، أم سيكون مصيره كبن جديد، أي الرحيل باكراً، طوعاً أو كراهية، لتعود الجزائر مجدداً إلى أحضان المجهول؟
الإجابة لا تزال عالقة بانتظار أن تكتمل «الطبخة الانتخابية» على يد أجهزة الاستخبارات، التي تُعَدّ السلطة الفعلية ومركز القرار الأقوى في البلاد، لكن من المؤكد أن دوائر القرار الجزائرية ستحتاج هذه المرة إلى مبررات أقوى إذا أرادت تعطيل الانتخابات، ذلك أن العالم تغير، ولم يعد بإمكان الجيش أن يكرر تجربة إلغاء الانتخابات إذا أدّت إلى نتائج لا تتوافق وهوى النظام.



ما هي حظوظ الإسلاميّين؟


لم يحصل الإسلاميون الجزائريون في الاستحقاق الانتخابي الأخير عام 2007 سوى على 900 ألف صوت، بينما اقترع 1.3 مليون ناخب لـ «جبهة التحرير»، وقرابة 600 ألف لـ «التجمع الوطني الديموقراطي»، وكلاهما من أحزاب الائتلاف الرئاسي، لكن معطيات كثيرة تغيرت؛ داخلياً هناك جهود كبيرة بُذلت لإعادة بناء «قطب إسلامي»، وقد بدأ ذلك بانسحاب «حركة مجتمع السلم» (تيار الإخوان المسلمين) من الائتلاف الرئاسي. وفي 2007، قاطع أنصار عبد الله جاب الله (الصورة)، وبقايا فلول «جبهة الإنقاذ» الانتخابات، ما يفسر تواضع حصيلة الإسلاميين في تلك الانتخابات، إلا أن هذين التيارين يشاركان مشاركة فاعلة في انتخابات أيار المقبل، ما سيفرز، لا محالة، موازين قوى مغايرة. وحيال تزايد النقمة الشعبية تجاه النظام، يرجح أن يكون المستفيد الأكبر هو التيار الإسلامي، وخصوصاً في ظل تشتت قوى المعارضة العلمانية واليسارية. وهناك عامل آخر، وهو تراجع فوبيا الإسلاميين، بعد فوز الإسلاميين في تونس والمغرب ومصر، وهيمنتهم على الحكم الجديد في ليبيا، لكن المعضلة تبقى أن القوى الإسلامية في الجزائر لا تهيمن عليها التيارات الإخوانية المعتدلة، بل يمثّل التيار السلفي القوة الغالبة عليها.