نيويورك | لم تكن المفاجأة في مجلس الأمن الدولي السبت الماضي أن روسيا والصين استخدمتا حق النقض لمنع تدويل الأزمة السورية ووضع حد للدور الذي أدّته الدبلوماسية القطرية ـــ السعودية. المفاجأة أن الضغوط الغربية الكبيرة والمغريات الاقتصادية الخليجية، التي جعلت حتى الهند وجنوب أفريقيا تؤيّدان مشروع القرار، لم تبدّل من موقفي موسكو وبكين، اللتين ردّتا على حصارهما في المجلس بتأكيد أن سوريا خط أحمر لا يمكن تجاوزه. وراء «العند» الروسي كان هناك معلومات تلقّاها الجانب الروسي تفيد بأن أي قرار يصدر عن المجلس ويزكّي خطة الجامعة العربية، سيستتبع بخطوات عسكرية على الأرض ستأتي سريعاً تحت الغطاء الدولي. موسكو وبكين تعلمان تفصيلاً حجم الدعم المالي واللوجستي الذي تقدمه الدول الغربية والخليجية للمجموعات المسلحة التي تفجّر الأوضاع في المدن السورية، وتوسّع الهوة بين الحكومة والمعارضة المدنية المطالبة بحقوقها الشرعية. تلك الجماعات التي تعمل عبر الحدود من لبنان وتركيا والعراق والأردن. بل إن موسكو تحديداً كانت تنقل إلى دمشق تفاصيل عن حجم الموضوع وليس العكس. ومن تلك التفاصيل خطة عربية ـــ غربية لتوسيع التدخل العسكري في سوريا كجزء من مشروع دفاعي عن دول الخليج العربية التي تواجه خطر الحرب على تخومها أو على أراضيها في حال تقرر خوض المواجهة مع إيران. واعتبرت الخطة إسقاط سوريا العاجل من ضمن الأولويات، كمرحلة استباقية لتقليص الخسائر وضمان النصر في أي مواجهة إقليمية مقبلة تعيد رسم خريطة المنطقة على أسس جديدة تستبعد منها موسكو وبكين وطهران. الخطة بحثت في اجتماع سرّي على انفراد عقد في بروكسل بين عبد اللطيف الزياني، الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي، والأمين العام لمنظمة حلف شمالي الأطلسي أندرس فوغ راسموسين في 29 كانون الثاني الماضي.
لذا كان لا بد للغرب من تسريع إمرار مشروع القرار في مجلس الأمن الدولي من أجل كسب التغطية الشرعية الدولية للخطة العربية المتضمنة تنحية رأس السلطة في دمشق، بشار الأسد. في مسوّدة المشروع الرابع، قدمت تنازلات كثيرة للجانب الروسي الصيني، من ضمنها التنديد بكافة أشكال العنف من الطرفين، وحذفت الدعوة إلى تنحّي الرئيس. لكن الفقرة السابعة من الفقرات العاملة في المشروع بقيت تتضمن تزكية للخطة العربية برمتها ودعوة إلى تطبيقها بالكامل. وهو المنفذ الذي يمكن توظيفه عسكرياً في أي تطورات لاحقة بعد استصدار القرار. وعندما سئل جيرارد آرو، مندوب فرنسا، قبيل جلسة المشاورات الطويلة التي عقدت في نيويورك مساء الخميس الماضي إن كانت الدول الغربية تنازلت عن تنحية الرئيس الأسد، نفى ذلك نفياً تاماً. وقال إن تطبيق الخطة العربية يعني تحديداً تنحّي الأسد، لكن من خلال الحوار السياسي الجامع الذي يفترض تطبيقه خلال أسبوعين. ووعد آرو، قبل المشاورات، بوضع مشروع القرار المغربي ـــ الغربي، الذي تتبنّاه السعودية والبحرين وعدة دول غربية وعربية أخرى وشرق أوسطية مثل تركيا، بالحبر الأزرق للتصويت عليه في أقرب وقت ممكن. وهذا ما حدث بالفعل في تلك الليلة. وكان ذلك أولى الإشارات إلى نفاد الطاقة على المساومة وبلوغ قعر التنازلات، ونفاد الوقت بسبب التطورات العسكرية على الأرض، ولا سيما في مدن تستعر فيها الحرب الأهلية مثل حمص وريف دمشق.
الإعلان عن جلسة السبت الطارئة كان في وقت متأخر يوم الجمعة. وكانت مواعيد الجلسة أيضاً متضاربة، والأسباب تعود إلى الاتصالات التي أجرتها وزيرة الخارجية الأميركية مع نظيرها الروسي. كان يفترض أن تبدأ الجلسة عند التاسعة صباحاً بالتوقيت المحلي لنيويورك، لكن السفراء مكثوا في المجلس أكثر من أربع ساعات ينتظرون نتائج الاتصالات بالعواصم وهواتفهم اليدوية لا تتوقف عن الاستقبال والإرسال. ولوحظ احتشاد مجموعة الدبلوماسيين العرب حول المندوبة الأميركية سوزان رايس في قاعة المجلس. وزعت رايس، رغم عبوسها وتأزمها الواضح، ابتسامات تطمينية للدبلوماسيين العرب. وغاب فيتالي تشوركين، مندوب روسيا، عن الصورة حتى ما قبل بدء الجلسة بقليل. كان طيلة تلك الفترة يتعرض لضغوط من كل جهة. أما وفد المعارضة السورية، الذي قدم إلى نيويورك برئاسة برهان غليون، فقد غاب عن المشهد تماماً.
غالبية المراسلين في الأمم المتحدة بقوا حتى ما قبل دقائق من التصويت يتوقعون امتناع روسيا والصين عن التصويت، وفوجئوا تماماً بالنتيجة. ولم يسع سوزان رايس، التي شعرت بالفشل الدبلوماسي الذريع، إلا أن تعرب عن «اشمئزاز الولايات المتحدة» من موقف الدولتين اللتين تعطّلان عمل المجلس «وتأخذانه رهينة... لمصالح فردية» حسب تعبيرها. أمر لم يرد عليه المندوب الروسي الذي قال في كلمته بعد التصويت، «إن بعض الدول النافذة في المجتمع الدولي، ولسوء الحظ من أولئك الذي يجلسون حول هذه الطاولة، كانوا يقوّضون منذ بداية العملية أي فرصة لتسوية سياسية». وشرح ذلك في حديثه إلى الصحافيين بعد الجلسة عندما تكلم عن دعم الجماعات المتطرفة المسلحة التي يجب استبعادها من التسوية السياسية في سوريا، بينما تصرّ الولايات المتحدة على ضرورة مشاركة كل أطياف المعارضة السورية بدون استثناء. أمر علّق عليه دبلوماسي ساخراً، «نشاهد للمرة الثانية خلال بضعة عقود من الزمن تحالفاً غربياً متجدّداً مع الجماعات التكفيرية في الشرق الأوسط».
في الجلسة تحدث مندوب سوريا لمدة 25 دقيقة، وسأل مندوبة الولايات المتحدة إن كان ذلك الاشمئزاز من الفيتو ينسحب على الستين فيتو التي استخدمتها بلادها لمنع التسوية الشاملة والعادلة للصراع العربي ـــ الإسرائيلي.
ورداً على سؤال «الأخبار» عن موقفه من الاشمئزاز الأميركي من الفيتو المزدوج، قال مندوب روسيا، فيتالي تشوركين، إنه لا ينزل إلى هذا المستوى.
أما مندوب فرنسا جيرار آرو، فقد خرج من الجلسة ليذكّر المراسلين بأن «مجازر حمص» تتزامن مع مجزرة حماة التي وقعت قبل ثلاثة عقود وراح ضحيتها عشرات الآلاف. وعندما سألته «الأخبار» عن أسباب استضافة أوروبا، وخاصة فرنسا وإسبانيا، نائب الرئيس السوري السابق رفعت الأسد في أوروبا منذ خروجه من سوريا بعد المجزرة، جاء ردّه «إننا شعب مضياف»، وترك المنصة قاطعاً حديثه وسط ضحك المراسلين.
أما سوزان رايس، فقد ركّزت بعد الفيتو على رفع راية «الثورة العربية» بالتعاون مع دول المنطقة «من الحلفاء». وقالت بالأسلوب الدعائي نفسه الذي كانت تخاطب به الدعاية الأميركية شعوب الاتحاد السوفياتي إبان الحرب الباردة، «الولايات المتحدة تقف في صفّكم أيها الشعب السوري، ولن يغمض لنا جفن قبل أن تنالوا بشجاعتكم حقوقكم». وتحدثت عن «وسائل أخرى» لتقديم الدعم.
أما مندوب روسيا فخرج مدافعاً عن موقفه، وقال إنه لم يلمس أي صدق في النيّات بتسوية الأمر في الأزمة السورية سلمياً. ونفى ما تحدث عنه مندوب بريطانيا مارك لايل غرانت من أن روسيا اشترطت تعديل مشروع القرار بحيث يطلب سحب المسلحين من المدن قبل انسحاب قوى الأمن السورية، وأكد أن الاقتراح الروسي كان واضحاً في تزامن الانسحابات من الطرفين، والإفراج عن المعتقلين وإعادة الأمن إلى المدن.