القاهرة | هي ثورة مستمرة إذاً. حشود «جمعة الغضب» الثانية أو «جمعة العزة والكرامة» نافست من حيث الحشود، أمس، الذكرى الأولى للثورة يوم الأربعاء الماضي، حتى إن «بعض المسيرات لم تستطع دخول الميدان، فليس هناك موطئ لقدم»، بحسب مسؤولين ميدانيين. قُدر العدد بنحو مليون ونصف مليون في ميدان التحرير والشوارع المحيطة به، من دون حساب مئات الآلاف في باقي المحافظات. محاكمة شعبية في قلب الميدان قضت بإعدام الرئيس السابق حسني مبارك، وزوجته سوزان، ورموز من النظام السابق. أعلام كبيرة وبالونات ملونة حملت صور الشهداء ارتفعت في سماء الميدان، وطالبت بانتخاب الرئيس المقبل قبل صياغة الدستور الجديد، مع دعوة البرلمان لتشريع قانون يسمح بمحاكم ثورية لأركان النظام البائد. وسط هذا كله، خرج المجلس العسكري المرتبك، الذي اختلق قبل 25 يناير رواية تخويف المصريين من سيناريوات حرق مصر، ببيان هزلي يصف من استخدم هذه الفزاعات بأنهم «مأجورون». المسيرات الآتية من محافظة الجيزة ضمّت عدداً كبيراً من أهالي شهداء الثورة الذين رفعوا صور أبنائهم، وكانوا ضمن مسيرة قدمت من المنيب وشارع الهرم لتلتقي بمسيرة أخرى انتظرت انتهاء صلاة الجمعة للخروج معاً من أمام مسجد الاستقامة في ميدان الجيزة، لتسيرا في شوارع الدقي والتحرير، وصولاً إلى ميدان التحرير، على وقع هتافات «عايزين نرجع زي زمان إيد واحدة في الميدان».
وبالعودة إلى القاهرة، كان لافتاً أن خطيب المنصة الأكبر في ميدان التحرير، وهي منصة «الإخوان»، شدد على أنه «لا نريد من أحد المزايدة»، إضافة إلى التزام موعد تسليم السلطة «الذي حدّدناه»، على حد تعبيره «في تموز المقبل». كلام عاكس كل مطالب المنصات الأخرى في الميدان بالتسليم الفوري للسلطة من قبل الجيش، في ظل الإدانات التي حملتها اللافتات والهتافات لأعضاء المجلس العسكري والتي وصلت إلى حد المطالبة بمحاكمتهم على «جرائمهم» التي ارتكبوها خلال المرحلة الانتقالية من شباط الماضي حتى اليوم. أكثر من ذلك، فقد نعتت إحدى أكبر اللافتات في الميدان كل عضو في المجلس العسكري الحاكم بوصفه «شاهد الزور» للمشير حسين طنطاوي، في إشارة إلى شهادته في محاكمة مبارك، حيث أنكر صدور أوامر لجيشه من الرئيس المخلوع بإطلاق الرصاص على المتظاهرين، و«جلاد الثوار» لحسن الرويني، و«خائن الشهداء» لمحسن الفنجري، و«سفاك الدماء» لحمدي بدين...
إذاً، كان رجاء عدم المزايدة هو المهيمن على سلوك «الإخوان المسلمين»؛ إذ رفعوا لافتة كبيرة موقعة من «تحالف القوى الإسلامية» إلى جانب «الدعوة السلفية» و«الجماعة الإسلامية» و«جبهة الحقوق والإصلاح»، تدعو إلى إجراء انتخابات مجلس الشورى وصياغة الدستور الجديد وانتخاب رئيس للجمهورية في المواعيد المحددة مسبقاً من الجيش. دعوة أخرى حملها الإسلاميون لـ«منع التخريب والتدمير والفوضى والبلطجة»، على غرار تحذيرات المجلس العسكري من خطة إرهابية لـ«حرق مصر»، حين قال قبل نحو شهر إنه اكتشف نيات تنفيذها في 25 يناير. حتى إن منصف أحمد، أحد شباب «الإخوان» المكلف من قيادات جماعته «حماية الميدان»، اعترف في دردشة مع «الأخبار»، بالفجوة التي أصبح يلاحظها بين شباب جماعته من جهة، وشباب القوى الثورية الأخرى من جهة أخرى، «بعدما أصبحنا نبدو في عيون البعض كمجرد طلاب سلطة»، في ما قد يكون إشارة إلى الاتهامات الموجهة إلى جماعته بمهادنة المجلس العسكري، في مقابل إجراء الانتخابات التشريعية بموعدها.
الأحزاب والقوى السياسية الأخرى ذابت تماماً وسط الحشود الكثيفة لأبناء الأحياء الشعبية (بعضهم كان يشارك للمرة الأولى). مسيرة أخرى كبيرة انطلقت من مسجد الخازندارة، في حي شبرا، بهتافات وطبول ونعوش رمزية لشهداء الثورة، علتها صورهم الضاحكة. المسيرة الآتية من حي شبرا حاصرت مبنى التلفزيون المصري في «ماسبيرو» لساعة كاملة، على وقع هتاف «الشعب يريد تطهير الإعلام»، و«يا إعلام هز الوسط، الحرية مش بالقسط»، بالإضافة طبعاً إلى «يسقط حكم العسكر» و«يلا يلا يا شباب على وزارة الإرهاب» في إشارة إلى وزارة الداخلية. لكن الهتاف البارز في منتصف يوم أمس كان «ارحل يا مشير... الدم كتير»، نافسه هتاف آخر هو «مسرحية مسرحية، العصابة هيّ هيّ». في هذا الوقت، جرت محاكمة رمزية شعبية أصدرت أحكام الإعدام بحق مبارك وسوزان ورموز من النظام السابق وقتلة الشهداء من رجال الشرطة. ومساءً، أُعلن بدء اعتصام مفتوح حتى تسليم المجلس العسكري السلطة فوراً لرئيس مجلس الشعب لفترة 60 يوماً، يدعو خلالها إلى انتخاب رئيس للجمهورية قبل صياغة الدستور، مع إلغاء مجلس الشورى واستبدال الوقت المخصص لانتخاب أعضائه للإعداد لانتخابات رئاسية تبدأ في مطلع نيسان المقبل. موقف اختلفت معه جماعة «الإخوان المسلمين» طبعاً التي تفض اعتصامها اليوم.
المحافظات المصرية أيضاً تبارت في منافسة بعضها لبعض من حيث كثافة المشاركة الشعبية؛ إذ خرج عشرات الآلاف من المواطنين في الصعيد والوجه البحري يهتفون ضد حكم العسكر. وفي الإسكندرية، ورغم هطل الأمطار، خرج عشرات الآلاف في شوارع المحافظة من كل التيارات، في ساحة مسجد القائد إبراهيم كالعادة، وأمام مقر قيادة المنطقة الشمالية العسكرية، ومبنى القناة الخامسة الحكومية، مرددين: «مهما نسقع مهما تمطر... حيسقط حكم العسكر».
وأول من أمس، وفي ما يعكس ارتباكاً واضحاً، جاء في بيان للمجلس العسكري أنه «مر يوم على ذكرى ثورة 25 يناير بسلام وسعادة على الشعب المصري بكل طوائفه السياسية، ولن تؤثر فزاعات بعض المأجورين أو المغرر بهم للعنف والاعتداء على المنشآت الحيوية أو القوات المسلحة أو الشرطة». وفي السياق، يلتقي المجلس العسكري بالمجلس الاستشاري المقرب منه، اليوم، لمناقشة طرحه «مبادرة التوافق الوطني» التي تطالب المجلس الاستشاري باستصدار مرسوم قانون بإنشاء لجنتين: الأولى لوضع تصور لمشروع الدستور الجديد، والثانية تتولى اقتراح آليات تأليف اللجنة التأسيسية.