سأل الرجل الأربعيني كل من حوله. لم يجب أحد، فأكمل: في اليوم نفسه من العام الماضي، كانت المغامرة كبيرة. كان السؤال: هل يلبّي الدعوة إلى التظاهر أعداد أكثر من المئات التقليدية؟ اليوم كانت المغامرة مختلفة: من سيفلت من الحصار الإعلامي؟ وكما حدثت المفاجأة أول مرة، تكررت، لكنها هذه المرة ببهاء أكثر وخيال لا توقفه ألاعيب السلطة. الرجل كاد يختنق من ملايين البشر هز دبيبهم المدينة المرتبكة بين الثورة والاستقرار... بين الرضى بالإصلاح والسير إلى آخر الحلم بجمهورية جديدة. لا إجابات، بل إيقاع جديد ينقل الميادين إلى زمن آخر مختلف عن الزمن العسكري. عروس تبتسم لعريسها وسط الحشود، وفضاء يتسع لطفولة حاصرها القهر والتخلف. إنه اليوم التاسع عشر للثورة، وهذه هي الحشود الهاربة من مصائد القطيع. إنهم هاربون من أشباح الماضي، وهذه هي فضاءات حريتهم وخيالهم المفتوح على حكايات الشهداء: مينا دانيال وعماد عفت وخالد سعيد.

أقنعهم إعلان لحضور باهر وأقنعة فانديتا للتواصل مع العالم الحالم بسقوط الظلم والقهر. هدير قوي يشير إلى أن الرسائل تصل إلى العسكر متأخرة.
الثورة ليست وجهة نظر أو اختلاف في الآراء، لكنها إرادة تغيير دفع الثوار ثمنها من روح وقلق ومغامرة ببسالة وجسارة. الثورة ليست انتظاراً للمنح، ولا تقسيماً للكعكة. وهذا ما لم يفهمه العسكر بعد.
الثورة إرادة وليست مطالب ينفذها من يجلس في موقع الديكتاتور. إنها ثورة على ديكتاتورية الحكم بالقوة. هدية المشير حسين طنطاوي وصلت بعد موعدها، فلم يشعر بها أحد؛ هدية فارغة من معناها. كيف تلغي حالة الطوارئ بعد فوات أوانها؟ كيف تنفذ مطلباً بعد تصعيد إرادة الثورة بإزاحة العسكر عن إدارة المرحلة الانتقالية وعن صناعة شرعية السلطة في جمهورية جديدة؟
الثورة تريد إنهاء شرعية الحكم بالقوة أو الغالب يسيطر، وهو ما يعني ببساطة أن المؤسسة العسكرية لا بد أن تعود إلى حجمها الطبيعي وإلى مهمة الحماية. هذا ما لم يدركه العسكر ولا المشير حين ساروا على خطى قائدهم حسني مبارك في ترويض الشعب بالعنف من خلال آلات الرعب في أجهزة الأمن، وبالتنويم عبر علاوات وهدايا وتلبية المطالب بطريقة التفافية لا تجعلها تلبية حقيقية.
المشير شنّ هو ومجلسه الحرب على الثورة، مستخدمين فيها خطة مبارك لكن بدون أدواته، وهذا ما أوصلنا إلى فوضى يتهمون الثوار بصناعتها. خدعة قد تنطلي بعض الوقت، لكن لا يمكن استمرارها طول الوقت، فالعسكر صنعوا فوضى ولا يملكون طرق الخروج منها. فشلت محاولة الخروج عبر منصة «الإخوان المسلمين» التي رفعت شعار العيد الأول. حشدت تحته مئات من حشود كانت غريبة في ميدان التحرير في القاهرة، ووحيدة في ميدان القائد إبراهيم في الإسكندرية، عندما قرّر الثوار تغيير المكان إلى ساحة بجوار الحقانية، الرمز المدني العتيق. ملايين الثوار ابتلعوا جسر «الإخوان» لمنح العسكر شرعية ثورية، على أفق أسطورة حماية الجيش للثورة، وباعتبار أن الثورة نجحت بوصول «الإخوان» إلى غالبية مقاعد البرلمان، وكأن الملايين غامروا بحياتهم اعتراضاً على الانتخابات الأخيرة في نظام مبارك.
«الإخوان» دخلوا عزلة اختيارية عن جسم الثورة، وهو ما قلّل من تأثيرهم في استكمال احتفال العسكر. فشل جسر «الإخوان» أجبرهم على الهتاف بسقوط حكم العسكر، وهو ما كشف عن أزمة التيار الذي اقتنص غالبية قامت على سباق خادع للدفاع عن الإسلام. وحدها الثورة اجتاحت شوارع مصر. خرجت التظاهرات بهديرها المحطم للخرافات والصفقات والاتفاقات السرية.
وحدها تشق صفوف النظام القديم ـــــ الجديد بروح تستلهم جسارة شهداء ومصابين تضيع حقوقهم بخطة حماية للقتلة والمجرمين. هذه النقطة العاطفية تشحن الغضب ضد آلهة التضليل والكذب، وهذا ما يؤدي إلى الخروج لـ«ماسبيرو» لإسقاط قلعة من قلاع حماية جمهورية العسكر. إلى أين ستذهب الدبّة القادمة للسائرين خلف أحلامهم للنهاية؟