أعضاء المجلس العسكري ليسوا خونة وعملاء، كما يتصورهم خيال شعبي رومنسي. إنهم فقط يبيعون بضاعة سياسية لا يمتلكون رصيدها. يسيرون على نهج حسني مبارك تماماً، لكنّهم يفتقدون حتى مهارات الموظف وألعابه، التي برع فيهما الرئيس النائم الآن ملتصقاً بسريره الطبي. مبارك ذهب الى الزنزانة الطبية، لكن بقي عقله وأزرار تشغيله للدولة وقرصها الفعال: مؤسسات الغموض. تتصور هذه المؤسسات أنها الدولة. تُغير في لاعبيها بكل ما تملك من سلطات واسعة، ومكان محجوز في الأرواح للرعب منها. مؤسسات الغموض لا تفصح عن مشاريعها.
إنها تُعيد طبخ كل العناصر لكي لا تغادر موقعها. تحمل نبلها الفريد بأن وجودها هو إنقاذ الدولة. وترى أن الانتقال من رأسمالية الدولة الى رأسمالية صرفة يتم عبر طريقة تنتقل فيها ثروات الدولة الى موظفين يمكن اختيارهم ليصبحوا رجال أعمال، لتضاف طبقات الى دولة تشبه الدول الحديثة لكنها ليست حديثة.
هذه المؤسسات تلقت ضربات منذ فشل مبارك في ادارة الأزمة. في لحظة ما اكتشفت أنّه أصبحت جزءاً من الأزمة، فقدّمته ضحية لتنقذ دولتها. هذه مؤسسات نرى قفازاتها ولا نرى ملامحها. من يخطط لكل ما يحدث في مصر؟ من يحكم ويدير؟ تبدو من بعيد علامات على وجود مركز سرّي يحاول إعادة لملمة أشلاء دولة «٢٣ يوليو»، وإعادتها في طبعة جديدة.
دولة يتحكم فيها الجنرالات، وترتدي كل المسارات المدنية المقنعة لتدخل تحت سيطرة المسار العسكري. هل هذه هواجس من وحي المعاشرة الطويلة لمؤامرات القصور والحجرات المغلقة ودولة الأجهزة السرية والتصور الحاكم بأن هذا قدر السياسة في مصر. هل يمكن أن يسقط النظام وتبقى أجهزته السرّية؟ هل تسمح الأجهزة السرّية بسقوط النظام، وخصوصاً أن السقوط يحصل بثورة شعبية لا قوة لديها سوى الأيادي العارية لشباب كسروا حاجز الخوف وهانت لديهم حياة بلا حرية ولا كرامة، ولم يكن لديهم خطة سياسية، لكنها حرب الدفاع عن الوجود الحر في بلد لا يُقهر فيه الفرد ولا تُهان كرامته تحت دبابات السلطة، وان كانت حنونة. الاستبداد كان حنوناً في طبعة مبارك، ناعماً مثل حرباء متلونة ورقيقاً مثل ذئباً شرساً مثل وحش لم يعد باقياً من شراسته سوى الأنياب. بالنسبة لهذه الأجهزة السرية، الثورة ليست ثورة بمعناها الذي يتيح تغيير نظام الحكم واعادة بناء جمهورية جديدة. إنها انتفاضة أو تظاهرة تعبر عن غضب شعبي على مبارك.
تفسير الغضب بالنسبة لهذه الأجهزة هو الحاشية الجديدة، التي أحاط بها مبارك نفسه أي العائلة ورجال الأعمال. ولهذا، فإن هذه الأجهزة السرّية، ألقت بالحاشية ورئيسها خلف القضبان، وكأنهم أسرى لا تريد استكمال محاكمتهم ولا تقدر على الافراج عنهم. إنهم أكباش فداء للجموع الغاضبة، ومثلهم مثل يحيى الجمل وعلي السلمي وعصام شرف الى أن وصلنا الى كمال الجنزوري وحكومته كلها.
جمهورية التسلط المركزية، التي تضع شرعية الحكم في أيدي الأجهزة السرّية، تختار هي الرئيس كما فعلت مع عبد الناصر وحتى مبارك. تمنح لاختيارها طقوس الشرعية الشكلية؛ فالانتخابات لا معنى لها، ولا مؤسسات الدولة. كلها أدوات في أيدي الأجهزة السرية.
هل هذا ما يحدث أم أنها كوابيس المرحلة الانتقالية المعقدة؟ الطرق كلها تؤدي الى اعادة دولة «٢٣ يوليو» في محاولة لتفكيك قوة المجتمع، وبصفقات سرّية ومعلنة بين القوى السياسية والمجلس العسكري الجزء الظاهر من الأجهزة السرّية.
الإخوان شاركوا في خديعة الاستفتاء على اعلان دستوري حمّال أوجه، وقادر على ضرب الجميع، ليبراليين وإسلاميين، ثواراً وجيشاً، للدفاع عن الدولة القديمة. الجميع مهدد بما يسميه شطار المجلس «شرعية» الاعلان الدستوري. وكل المسارات المدنية يتم تدميرها أو خدشها من الانتخابات التي تمت بطريقة تخرج فيها مشوهة بجهاز بيروقراطي عقيم، وبغضّ الطرف عن الانتهاكات، ليصل النواب بشرعية منقوصة، ويفقد الشعب الإيمان بأن تكون الانتخابات مسار التغيير أو تداول السلطة. تتفكك القوة السياسية على أرضية الاستقطاب بين الاسلاميين والليبراليين، وهو استقطاب وهمي، لأنهما في الحقيقة يحملان نفس المشروع. كلاهما يتنافس على المنطقة ودغدغة المشاعر بلعبة الهوية. لا فرق بين الليبرالي والاسلامي في النظرة الى المشروع الاقتصادي والاجتماعي. كلاهما لن يمس نظام مبارك، وسيحافظ على دوران ماكينة الاقتصاد لتصب في صالح شريحة صغيرة مع زيادة مساحة الاحسان للفقراء.