لم يطلب سوى شيء واحد: سنعبر الأزمة وأطلع على الناس أروي لهم ما فعلته في ٣٠ سنة. كان حسني مبارك يعتقد أنه سيعبر «الأزمة» كما سمّوها، وسيواجهها بالحكايات عن بطولاته التي يراها الشعب كوارث. رأس عجوز يتصور أنه سيسيطر على شعبه بالحكايات القديمة، وبأجهزة وصلت إلى حالة عجز شبه كامل. لم يعد يدافع عن النظام إلا الجيش، يريد استمرار «النظام» ويتخذ مسافة من قصر الرئاسة حيث أصبح الأب تماماً في قبضة الابن. المسافة بين الجيش والرئاسة اتسعت بعد «موقعة الجمل». كلاهما أراد إنقاذ النظام، كان يعني ذلك للرئاسة استمرار مبارك بأي ثمن، واعتبار ما يحدث سحابة صيف. أما بالنسبة إلى الجيش، فكان ذلك يعني أنه لم يعد هناك مجال لحماية مبارك.
الدولة انهارت، هكذا كانت في الأيام الـ١٨ بالنسبة إلى كل من اقترب من النظام، بينما في ميدان التحرير كانت المغامرة مفتوحة. جسم بلا رأس يهز البناء الضخم. رأس النظام يترنج في القصر وتحاول العائلة حمايته، لكن في الميدان لم يكن أمام الملايين سوى إكمال المغامرة. حرب حياة وموت بين رأس افترق عن جسده، وجسد بلا رأس، وهذه هي معادلة المرحلة الانتقالية.
العناد والإنكار أسقطا الرأس، وأجبراه على الرحيل بعدما لاح شبح تشاوشسكو له ولزوجته التي أوقفت المروحية لتحضر شيئاً نسيته في القصر الصغير، مقر الاقامة العائلية. عالم كامل انهار أمامها بعدما أُغلقت الطرقات ووصل صوت المتظاهرين إلى القصر، وأوصل الجيش رسالته: لن نمنع أحداً من الدخول إلى القصر. الجيش كان يريد إعادة بناء جسم النظام بقطع الرأس، وهذه عملية معقدة لم تتكشّف ملامحها كاملة إلا بعد مرور سنة، حيث تهشمت خرافة «الشعب والجيش ايد واحدة»، مع جولات المواجهة بين المجلس العسكري والثورة، وبعدما استخدم الجيش كل أسلحته من الحيلة والاحتواء إلى العنف لدرجة التوحش.
القرار الأول لمبارك في الأزمة وبعد التحرر من سطوة إدارة ابنه جمال، كان الاتصال هاتفياً بالمشير حسين طنطاوي ليذيع قرار التخلي عن سلطاته. الرواة يقولون إنه ختم المكالمة بإشارتين: الأولى: خلّوا بالكم من نفسكم. والثانية طلب أن يكون رئيس المحكمة الدستورية حاضراً في كتابة نص القرار ليكون الانتقال دستورياً. الرأس هنا لم يكن يتوقع الكسر، ومبارك يتصور أنه في استراحة ترتيب نظامه، وسيدخل التاريخ بالاشراف على عملية الانتقال.
كان يعد نفسه للحكايات عن أمجاد ٣٠ سنة، وعن شجاعته كطيار أنقذ سرب طائراته بعد ١٩٦٧ وأنقذ مصر كلها بالطيران بها تحت الرادار. الرئيس فقد كل شيء بالقرار، والجيش استعدّ لبناء رأس جديد للنظام، معتمداً على القوة المعنوية للجيش عند الشعب الذي انتظر التغيير من العسكر، واسترق السمع ليعرف ما يدور في الغرف المغلقة، لكن الجنرالات آثروا السلامة، أو اتباع دائرة مصالحهم وانتظروا حتى فعلها الشعب.
المجلس العسكري ارتبك اذاً. ماذا يفعل مع مجتمع غادر غرف النوم وقرر المشاركة في صناعة المستقبل؟ المجلس تصرف كما يملي عليه العقل السلطوي: سندلّل الشعب ونقول فيه كلاماً عظيماً حتى يطمئنّ ويعود إلى النوم، لكن المجتمع تغير، وُلِدت فيه قوى ربيع حقيقي، لا تقبل العودة إلا بعد تحقيق الحلم القصيّ. قوى لا ترسم خيالها على قدر لا يزعج السلطة. قوى قادرة على تجميع هوامش المجتمع، ضحايا سياسات التسلط التي طردت من رحمتها قطاعات لا تُعد ولا تُحصى، وأصبحت هي الثورة بميدانها الرحب، وطاقتها المتمرّدة على الاستبداد فضاءً متسعاً لهؤلاء المهمّشين.
الثورة اذاً لم تمت، لكنها لا تملك القوى التي تستطيع أن تحسم بها المعركة وتنتصر وتحكم وتغيّر النظام تماماً. الثورة لا تزال في الشوارع، تتجوّل بروح لا تعرف الهزيمة، وإن عرفت الضيق والغضب والاحباط، لكنها نشرت ثقافة جديدة تصل إلى أماكن لا يمكن تخيلها، وهذا ما يفقد الأطراف الأخرى القدرة على الحسم.
المجلس العسكري يملك القوة، لكنه ليس قادراً على الحسم، و«الإخوان المسلمون» حصلوا على غالبية مقاعد البرلمان، لكنهم لا يملكون القدرة على الحسم. هذه هي الدائرة التي تتحرك فيها السياسة في مصر: لا أحد قادراً على الحسم، والمستقبل رهن بنمو قوى الثورة في اطار شغلها للفراغ السياسي.
هل محمد البرادعي سيقود هذه القوى بحزبه الذي تتسرب أخبار عن اسمه (النهضة)، وأنه سيكون الحزب الكبير لليبرالية وسيضم مجموعة أحزاب تعمل في الساحة فعلاً؟ هل سيكون رأس جسم الثورة الذي فشلت كل محاولات الجسم الكبير في التهامه؟ هذه أسئلة الثورة الثانية.
الثورة الأولى كانت تحطيماً لأسوار برلين داخل كل فرد، وقوة مدهشة أخرجت كل من احتمى ببالونه الخاص. كانت ثورة المدينة على نفسها. شباب الطبقة الوسطى قادوا اكتشاف المصريين لشعب آخر يعيش تحت ركام جمهوريات الخوف والفساد. المارد بكامل رقّته ينتفض من تحت الرماد الثقيل، بنداء من عالم افتراضي تمرّد على الخطابات الجوفاء، والمرارات الفاقعة، والتوافقات المخزية. تنظيم افتراضي حوّل من صفحات المواقع الالكترونية الاجتماعية، ميداناً للحرية. تفككت البلاغة الخشبية وانتشرت ثقافة حرية لا تعترف بحواجز الإقصاء وكمائن التخوين، وفذلكات الهزيمة الدائمة.
المدينة في تعدُّدها، رجالاً ونساءً، محجَّبات وعصريات، مسلمين ومسيحيين، ملتزمون بالعبادات ومتمردون على القيم المحافظة، نساء يدخّنّ ورجال يهتفون بالدعاء. لم يعد الدين مجرد ساتر وتعويذة. اقترب من لاهوت تحرير، والعلمانية لا تتحسس مسدسها كلما رأت جموع المصلين. قبول مؤقَّت ربما، لكنه شكل الجسم الذي لا يمكن للذاكرة أن تنساه. جسم اكتشف أجساداً غيّبها القهر السياسي والاجتماعي. بهذه الأجساد دفعت مصر فاتورة عبورها إلى المستقبل. ثورة المدينة بعد سنوات ترييف وعسكرة، صنعت جمهورية أبوية تقدّس الرئيس وتعتبره أباً فوق النقد. البطريرك يصعد القصر ويبقى للأبد في حماية طقوس عبادته، «ليس من قيمنا أن نُخرج الأب بهذه الطريقة». هكذا قالت أجهزة الدعاية السوداء محرَِّضة على الأبناء الضالّين. تحطيم أسوار برلين وبالونات الشخص الأناني فتحت الباب أمام أحلام المظلومين والمحرومين والمهمشين. كل هؤلاء نادتهم جاذبية الميدان ومنحوا لجسم الثورة امتداداً مدهشاً لم يتوقعه أحد.
هؤلاء يخرجون عبر الميدان وبالتدريج من سطوة الشيخ بعدما تحرروا من الجنرال. كانوا هم أنفسهم جنود معركة انتقام من الدولة الحديثة لا من استبدادها فحسب. هذه بقايا مبارك، وفاتورة جمهورية الاستبداد التي ندفعها لأننا لم نثق بالأحلام بما يكفي، ولا تخلصنا من تربية تقول «أبعد عن السلطة وغنّ لها» بما يكفي لنعيش في بلد محترم.
لم يكن سوى للشيخ أو من يشبهه الحق في التكلم، بعدما فقد السياسي ثقة الناس. الشيخ يطالب الآن بمساحة أكبر في السياسة، وسيفقدها بعد فترة يكتشف فيها أن خطاب الدعاء على الدولة الحديثة والدعوة إلى التمييز على حسب الدين أو الطائفة، مشوار قصير قد يحصد مقاعد في أول انتخابات، لكنه لن يحصد سوى اللعنات لاحقاً، لأن الخلط بين أحلام المظلومين والبحث عن هوية الدولة والرغبة في سلطة الفقهاء، خلطة مغرية لكنها تلد جنوداً لا مواطنين. الحلم الذي تتسع الأعين باتجاهه الآن هو أن نكون مواطنين لا رعايا ولا جنود لأي فصيل أو جماعة أو مجلس. مواطنون تكون السياسة طريقهم لدولة محترمة تحمي العدالة لكي لا تتوالد الأجيال من أطفال الشوارع، أو يعيش ٢٣ في المئة من المصريين بدون حمامات، أو يموت الفقراء على أبواب المستشفيات.
وهنا لا يهم هوية الدولة ولا دينها. ولا يهم إذا كانت تنظر في ديانة المواطن قبل أن تمنحه حقه. ولا يهم أن تتابع طول فستان المرأة. هذه الاحلام لم تعد بعيدة، ومن أجلها تنفجر ثورة ثانية بعد عام واحد فقط.



الشهداء وأقنعة «فينديتا»

اين سيذهب الجنرالات غداً؟ الشهداء سيعودون الى الميدان، وسيرتدي الثوار أقنعة على وجوههم، الشهداء حاضرون بأحلامهم وحقوقهم. البرادعي زار اسرة مينا دانيال وعماد عفت، والجلسة الاولى في البرلمان كانت عنهم، والحكومة اعلنت توزيعها للتعويضات والوظائف كعادتها على ضحايا كوارث، من نوع العبارة و الزلزال. الشهداء ليسوا ضحايا، هذا ما جعل العائلات ترفض التعويضات بدون محاكمة عادلة، وترفض الدية التي يتوسط شيوخ مشاهير من السلفيين من اجل ان تكون نهاية للأزمة. اقنعة الشهداء مستوحاة من الفيلم الأميركي «إكس فينديتا»، الذي يرتدى فيه أحد الثوار قناعاً طوال أحداث الفيلم، وفي نهايته يخرج أهل المدينة كلهم مرتدين القناع نفسه.
الفكرة اثارت المجلس العسكري وشنت عليها صحيفة حزب «الحرية والعدالة» حملة وصفت فيها القناع، بعدما اخطأت باسمه (قالت بانديتا)، على انه علامة على تنظيم تخريبي. اصحاب الفكرة سخروا من صحيفة الحزب ووصفوها بأنها تسير على خطى التفكير المباحثي وصححوا معلومات تتعلق بالفيلم والفكرة التي تبنّاها مصمم الغرافيتي محمد المشير، وقال عنها لـ«المصري اليوم»: «كنت اريد تنفيذ قناع مشابه لبطل الفيلم إلا أن آخرين طوروا الفكرة، وقرروا أن يحمل القناع ملامح الشهداء الذين سقطوا في الثورة».
ويتداول نشطاء موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» اقتراحات بتطوير الفكرة وتمصيرها، من أجل توحيد الأقنعة، سواء كانت باستخدام قناع «فينديتا» الشهير أو وجوه الشهداء، مؤكدين أنها تهدف لإيصال رسالة إلى المجلس العسكرى، مفادها أن «هدفنا لا يزال واحداً». المشير كتب تغريدة على حسابه الخاص على موقع «تويتر» قال فيها: «الهدف منها سلمي تماماً ومجرد تعبير عن فكرة أننا جميعاً مشروع شهيد».