تونس | شهدت الجلسة الافتتاحية لمحاكمة قناة «نسمة تي في» في تونس، بتهمة بث فيلم كرتون إيراني عُدّ «مساساً بالذات الإلهية»، مواجهات عنيفة بين شباب الحركات السلفية، والمتعاطفين مع القناة، من كُتّاب وصحافيين ونشطاء مجتمع مدني تجمهروا أمام المحكمة للدفاع عن «حرية الإبداع». ونشبت مشادات كلامية بين المعسكرين، سرعان ما تطوّرت إلى مواجهات تعرّض خلالها عدد من المثقفين والإعلاميين لاعتداءات عنيفة من السلفيين.
ومن بين الذين استهدفتهم الاعتداءات، الإعلامي البارز زياد كريشان، رئيس تحرير صحيفة «المغرب» اليسارية، والدكتور عبد الحليم المسعودي، الذي يقدِّم على «نسمة تي في» برنامجاً نقاشياً مثيراً للجدل بعنوان «مغربنا في التحرير والتنوير». وجُرح أيضاً رئيس حزب «وطد» (حركة الوطنيين الديموقراطيين) شكري بلعيد، والناشطة الحقوقية سعيدة غراش، والمفكّر الدكتور حمادي الرديسي، وهو مؤلف العديد من الكتب المرجعية عن الفكر الديني المتطرف، وآخرها «ميثاق نجد»، الذي انتقد فيه بشدة الفكر السلفي الوهابي. اعتداءات جاءت على وقع شعارات السلفيين منها «الشعب يريد إغلاق نسمة» و«يا إعلام يا جبان، الدين لا يُهان»، و«الشعب مسلم ولا يستسلم».
وكانت قضية «نسمة تي في» قد انفجرت في عز الحملة الانتخابية، في تشرين الأول الماضي، إثر بثّ شريط الكرتون Persipolis للمخرجة الإيرانية مرجان ساترابي، الذي عدّه البعض «مسيئاً للذات الإلهية»؛ لأن الفيلم يظهر الله بصورة عجوز ملتحٍ في حلم طفلة إيرانية في 3 مشاهد قصيرة. وشنّت التيارات السلفية حملة عنيفة أُحرق خلالها منزل مدير القناة، نبيل القروي، وحاول المتطرفون اقتحام مقر التلفزيون لحرقه أيضاً، لكن قوات الأمن تدخلت لحمايته، واعتقلت آنذاك نحو 150 شاباً سلفياً. وتحوّلت الشبكات الاجتماعية على الإنترنت في الأشهر الأخيرة إلى حلبة لتكفير عدد من الإعلاميين الذين يعملون في «نسمة تي في»، أو ممن تعاطفوا معها، والمطالبة بإغلاق هذا التلفزيون الذي يملكه المنتج السينمائي الشهير طارق بن عمار. ورغم أنّ مدير «نسمة تي في» اعتذر رسمياً عمّا يمكن أن يكون الفيلم قد سبّبه من «مسّ لمشاعر المؤمنين»، إلا أن عدداً من المحامين من ذوي التوجه الإسلامي رفعوا دعوى قضائية على القناة، بتهمة «التطاول على المقدسات الدينية». ووجهت إلى القروي أيضاً تهم «المشاركة في النيل من الشعائر الدينية» و«عرض شريط أجنبي على العموم من شأنه تعكير صفو النظام العام والنيل من الأخلاق الحميدة». واكتفى القروي بالقول لدى وصوله إلى قاعة المحكمة: «إنني حزين لحضوري إلى هنا اليوم. إنها محاكمة سياسية». في المقابل، انبرى عدد بارز من المحامين للدفاع عن «نسمة تي في»، ومن بين هؤلاء، رئيس الحكومة الانتقالية، التي حكمت في تونس منذ قيام الثورة إلى غاية انتخاب «المجلس التأسيسي»، الباجي قائد السبسي، الذي قال في مرافعته خلال الجلسة الافتتاحية: «لم آت هنا للدفاع عن تلفزيون نسمة، بل لأن الأمر يتعلق بالدفاع عن حق مقدس هو حرية التعبير والإبداع والصحافة». وفي ختام الجلسة الافتتاحية، قرّرت المحكمة تأجيل النظر في القضية إلى 19 نيسان المقبل.
وكان لافتاً أن حركة «النهضة» الإسلامية، التي تحظى بالغالبية في الائتلاف الحاكم، نأت بنفسها عن التجاذبات التي رافقت هذه المحاكمة، إذ نشر المكتب الإعلامي للحركة، أمس، بياناً شدّد على «تمسك النهضة بحرية التعبير حقاً أساسياً من حقوق الإنسان». وتابع البيان قائلاً إنّ مثول مدير قناة «نسمة» أمام القضاء، «لا يمثل الحل الأمثل للإشكالية المطروحة والتجاذب بين هوية المجتمع أو المساس بالمقدسات من جهة، وحرية التعبير من جهة ثانية». ودعا بيان «النهضة» إلى معالجة مثل هذه السجالات الفكرية من خلال «توافق وطني بين رجال الإعلام والاتصال ومكونات المجتمع المدني والسياسي على الحريات الإعلامية والدينية لكي تحافظ ثورتنا المباركة على تألقها وزخمها».
ويعدّ هذا البيان تطوّراً بارزاً في موقف «النهضة» باتجاه الانتصار للحريات، وخصوصاً بعد الجدل الذي أُثير أخيراً حول التعيينات التي قرّرتها حكومة حمادي الجبالي بالنسبة إلى مؤسسات الإعلام التابعة للدولة، والتي قُوبلت بالكثير من الاستهجان من الأوساط الإعلامية التونسية التي رأت فيها «محاولة للعودة بالإعلام إلى ممارسات ما قبل قيام الثورة».