إنهم يبحثون عن فريسة. الاستخبارات وناشرو الروايات المثيرة ينتشرون في المكان. يطاردون الروح التي ولدت منذ أقل من عام، ويتابعون أماكن انتشارها ليعثروا هناك على فريستهم. هو الشيطان الذي يستحضرونه ليكون بطل روايتهم القديمة الجديدة. الفريسة صعبة، فقد اختفت المراكز القديمة. والثورة ينشطر كل جزء منها في مكان، وكلّما تصوّر العسكر بعقلهم القديم أنهم عثروا على الفريسة، اكتشفوا أن سرّ الثورة ليس عندها، وكلّما خرج صياد منهم عاد منهكاً، ومصاباً باللعنات، فالزمن اختلف والفضاء لم يعد ملك القبضة الواحدة.
أصبح الهتاف في كل مكان بسقوط حكم العسكر. مندوب المجلس العسكري لم يستطع استكمال كلمته في احتفال الثورة الليبية في دار الأوبرا بسبب مقاطعة الجمهور بهتاف ضد العسكر.
الهتاف لم يعد مجرد صرخة، لكنه أيقونة صوتية ومرئية تتجسد فيها الروح ضد عودة الديكتاتور إلى شبابه، أو بحثه عن ربيع يعود به الحياة بعد تغيير جلده وتلوُّنه بألوان الثورة. «قول متخافشي... المجلس لازم يمشي»، الهتاف يعلو ويعلو ضد ربيع الاستبداد المتخيل بعدما حشد العسكر آلاتهم القديمة ليخطفوا الثورة في احتفال يرتبونه على كاتالوغهم الكلاسيكي، بينما الثورة تبقى في الشارع بدون سند من البيوت، تماماً مثلما وُلدت، غريبة، ومحاصرة بالقلق.
هذا هو مخطط ربيع الديكتاتور، أن يكون السؤال الأساسي هو: ماذا سيحدث في ذكرى انطلاق الثورة يوم ٢٥ يناير؟ كل آلات النظام القديم تعزف لحن الرعب الكبير. «البلد ها تتحرق يوم ٢٥…»، «الحق واتخبّى في بيتك، فالمخربون سيحرقون مصر». النظام كله من أساسه إلى رأسه، يردّد هذه الكذبة المكشوفة من أول لحظة تفكير: هل تعلن المؤامرة نفسها قبل أسابيع من وقوعها؟ وإذا كشفت الأجهزة الذكية المؤامرة السرية، فلماذا لا تكشفها للرأي العام الذي تكتفي بتجييشه في قطيع من الخائفين؟ هل أعلن المجلس العسكري الحرب على الثوار؟ لماذا كل هذا الرعب؟ من الذي أرسل إلى محالّ وسط البلد خطابات تحذير مما سيحدث يوم ٢٥ كانون الثاني؟ من الذي أصدر أوامر شفهية للمصارف بتفريغ ماكينات السحب الفوري ابتداءً من ٢٤ كانون الثاني؟ هل هي حرب؟ على من؟ ومن الذي يتصور أنه سيكسب حرباً ضد من اختاروا الحرية ولم تكفهم كل تلك القرابين من محاكمة حسني مبارك وحتى كوبونات المشير؟ هل سيخرج حسني مبارك بريئاً ويبتسم من جديد للجماهير بعد مرافعة محاميه عن صاحب القلب الطيب الذي لا يحب أن يرى دم شعبه يسيل؟ الدفاع عن مبارك بنُي على مسؤولية الجيش عن الجرائم، فهل هناك ما بقي من أسطورة الجيش ليضمن بها ربيع الدكتاتور؟
صوت النظام يشبه زمجرة آلات عسكرية قديمة، وحركتهم تشبه المدرعة التي حاولت دخول ميدان التحرير ليلة ٢٨ كانون الثاني الماضي، وتعطّلت واحتاجت إلى دفعة جماعية من الثوار. من الذي قال للمشير حسين طنطاوي إن الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر ليس لديه مترجم عربي يقرأ الصحف ويحكي له عن اعتذار اللواء عادل عمارة عن مشهد سحل «ست البنات» في القصر العيني؟ هل كان يتصور أن كارتر مثل مَن تعوّد عليهم من رجال السياسة في عهود الاستبداد، لا يتكلم في الصحف إلا بإذن؟ ولن يروي ما قاله عن تزوير فيديو السحل، وعن الجنود الذين كانوا يحاولون تغطية الفتاة ذات الملابس المستفزّة؟ الركلات مزورة والضرب مزور وسحل كل من دافع عنها مزور. هل اعتذار اللواء عمارة مزوَّر أيضاً؟
الزمجرة عالية ومتوحّشة. هي مخيفة حتى وهي تحذّر من الخوف. مَن هو صاحب اختراع المياه الملوَّنة؟ مَن هو المصدر الذي امتلك جرأة الكلام على استخدام مياه ملوَّنة تترك علاماته على الجسم لـ ٦ أشهر كاملة لتساعد في التعرف إلى من يشارك في التظاهرات المضادة لحكم العسكر؟ كل هذا العبث في أيام قليلة يصدر عن ماكينات النظام السرية، ويشحن الناس باتجاه يوم الهول الكبير، ليهرول الجميع باتجاه الجيش: احمنا كما حميتَ الثورة في ٢٥ كانون الثاني، وهي الأسطورة التي استحضروا من أجلها عماد الدين أديب الذي نشرت أخبار عن حواراته مع أعضاء المجلس عن كيف حمى الجيش الثورة.
استحضار خبير لم تنقذ عمليات تجميله عصر مبارك. علامة جديدة على الخروج من الزمن، وعلى أن الأسطورة لن تجد من يرمّمها، وأن خبير الأسطورة الذي وصل إلى الفضائيات سيكتشف زوال سحره القديم. المجلس وسَحَرته وكهَنته يتصوّرون أنّ من الممكن ركوب آلة الزمن والرجوع إلى الخلف، وإلغاء العناصر الجديدة بمجرد التهدئة مع «الإخوان المسلمين» والسلفيين، وتشغيل ماكينات قهر تستخدم الدين (كما يظهر مع مذيعي القنوات الدينية) والسياسة (التهديد باستخدام عناصر من الإخوان والسلفيين لحماية المجلس العسكري)، وتستخدم الخوف الطبيعي من المجهول (أنّ الثوار سيخرّبون المنشآت العامة وسيحرقون مصر وسيسقطون الجيش). الماكينات قوية لكنها قديمة، لذا فإنّ فاعليتها تخفت كلما زادت حدتها، والحقيقة تتكشف كلما تحرك النظام بخطواته القديمة نفسها. سائق التاكسي علّق على خبر إلغاء وزير المال إجازات موظفيه لصرف تعويضات الشهداء والجرحى بجملة واحدة: كانوا فين من سنة؟ افتكروا دلوقتي علشان خايفين من يوم ٢٥؟ سألته كما سألت من كلمني عن الهول العظيم في ٢٥: ومَن الذي حمى الثورة في الأيام الـ ١٨؟ صمت، فأكملت السؤال: مَن حَمى مصر غير أهلها؟ كانت كل المؤسسات والمنشآت في وسط البلد وقريباً من ميدان التحرير بحماية ثوار التحرير؟ يهزّ السائق رأسه ويكمل: بالفعل، لم يهاجم أحد الكنائس ولا المصارف. لم يفعل ذلك سوى البلطجية الذين نعرفم ونعرف علاقتهم بأجهزة الأمن.
الناس لم يعودوا يصدّقون الأساطير من هذا النوع، وكان من الممكن أن تصبح حماية الجيش للثورة أسطورة مسكوتاً عن صدقها لفترات طويلة. لكن المجلس العسكري، بعقليته الموروثة من زمن الاستبداد، حطّم بنفسه الأسطورة.

البرلمان لن يُسكت صوت الميدان



السجين رئيس للبرلمان. حركة على مسرح السياسة لا تحصل إلّا بدراما أو رحلة لم تكن تتحقق بلا ثورة. أما حرب الشرعيات، فلن تؤدي إلاّ إلى ضرب للبرلمان؛ لأن «عمر البرلمان ما هيسكت صوت الميدان»

الكتاتني يقترب من المقعد الكبير تحت القبة. يقترب ويحمل معه دلالة قد تغيب في إطار الاستقطاب السياسي الحارق. الكتاتني اعتقل يوم ٢٨ يناير وخرج من المعتقل بعد هجوم مسلح، ووجد نفسه في الصحراء معلناً أنه لم يهرب لكنه وجد الزنزانة مفتوحة وإذا لم يخرج فسيموت.
الرحلة من الزنزانة إلى منصة البرلمان تعني الكثير في إطار بناء جمهورية جديدة؛ لأنها مرت عبر الميدان الذي يعني ببساطة أن هناك قوى حرة في المجتمع نزلت إلى الشوارع بأجسادها وواجهة آلة القمع الضخمة بأيد عارية. هذه القوة حررت المجال السياسي كله. حررته ليصبح السجين رئيساً للبرلمان.
الكتاتني على مقعد احتله فتحي سرور أكثر من 20 عاماً، وهو الآن في زنزانة ينتظر مصيره مع بقية الذين كانوا يحتفلون كل مرة بنجاحهم في التزوير. هذه علامة ثورة وتغيير من أسفل. يجعل السجين على منصة من أصبحوا الآن في السجن. رحلة لم تكن تتحقق من دون ثورة لم يقم بها تيار سياسي ولا جماعة بعينها... ولكنها قوة جديدة في مجتمع قالوا عنه إنه مات وشبع موتاً بالسكتة السياسية.
السجين حرّ ويخترق دولة الكهنة التي عاش مطارداً من كلاب حراستها، ويقود البلاد ويساهم في صنع مستقبلها… هذه وحدها ضربة لمؤسسات الاستبداد وعلامة من علامات هزيمة الجمهورية القديمة بغموضها وكهنوتها وبقدرتها الرهيبة على زراعة القمع داخل النفوس. لم تخترق الثورة الأسوار المحاطة بدولة الكهنة فقط، لكنهم أوسعوا مكاناً لسجين كان تحت قبضتهم قبل أقل من سنة... لتحدث مفارقة المرحلة الانتقالة: النظام يشهد بنفسه انهياراته. يشهدها مثل تنين يحتضر ويصدر أصواتاً مرعبة وصرخات الاحتضار.
يدافع التنين عن وجوده. ولا يرى تقلص مساحته أو الفراغ المتاح لديه. وأصبحت كل حركة له بخسارة كبيرة ودمار لم يعد محتملاً. قد لا يستوعب الإخوان المسلمون أنفسهم ضخامة الرمز في رحلة الكتاتني، وخاصةً مع صعود صوت تيار يسعى إلى صنع حرب شرعيات بين البرلمان والميدان... لا تعارض بين الشرعيتين. البرلمان شرعية نعم، لكنها تصبح ناقصة كما كانت كل البرلمانات في عصور الاستبداد ناقصة؛ لأنها كانت تحت قبضة المستبد ودولة الكهنة بكل غموضها الفتاك.
ومن دون الميدان سيكون البرلمان بأغلبيته الإخوانية وطيفه المتعدد لعبة في يد من يحاول إعادة بناء الديكتاتورية الجديدة.
إعلان حرب الشرعيات والتعامل مع التظاهرات على أنها أعمال شغب وتخريب هو ضرب للبرلمان ومن نجح فيه، لأن «عمره البرلمان ما هيسكت صوت الميدان». وإذا فعلها الإخوان فهذه هي الخطيئة الكبرى.

حرب رجل السراديب




«خلاص معدش فيه ظلم تاني…». رنة صوت نوارة نجم سجلتها الذاكرة، وارتبطت بها مشاعر الفرح بالحزن الطويل: كيف أصبحت إزاحة شخص بلا قيمة بكل هذه القيمة؟ فتحت كل أدراج خزن فيها المصريون عواطفهم وأفكارهم في لحظة واحدة، عندما أزيح مبارك من قصر الرئاسة، ورنة نوارة صاحبت الحدث الاستثنائي.
مؤلمة إذاً لحظة الاعتداء عليها واصطياد مجموعة بلطجية (يقول الشهود إنهم جنود نظاميون في ملابس مدنية) لها وحيدة أمام مبنى ماسبيرو الذي تحرسه قوات ضخمة… لم تتحرك واكتفت بالفرجة. اصطياد؟ إنه الانحطاط… تجسد في كائنات من الممكن أن تمس طرف نوارة أو تفرح لأنها «ضبطتها» كما يشير التعبير الشعبي المصري إلى إنهاء المهمة بنجاح. إنهم تشكيل يتحرك بإدارة ما في سراديب سرية تدير العمليات القذرة... رجل من المعتدين قال معاتباً رفاقه: «ليه ضربتوها مسبتوهاش ليه للنسوان تخلص عليها؟». إنها خطة محكمة، يقودها إنسان السراديب هذا ويحرك بها عناصر نظامية... في جيش البلطجية. البلطجة لم تعد تخص فئة من المسجلين خطر. لكنها سمة من سمات عقل يدير المعركة بين الشعب والسلطة. الشعب أقام الأفراح بالخروج من الحفرة… والسلطة لعبت كل ألعابها لتعود به من حيث هرب. وهذا ما جعل عملية اصطياد نوارة مهمة لإنسان السراديب لأنه ساعتها سيمحو الصوت الذي ارتبطت نبرته بالتخلص من الفرعون. صوت نوارة لم يظهر في تسجيل الواقعة، أصابها سكوت مؤلم، بينما كانت الأصوات الكريهة تعيد مثل آلات التسجيل ما تقوله أسلحة الببغاوات في الصحافة والفضائيات… أصواتهم تكشف عن طبيعة مهمتهم... بلا روح ولا قوة سوى خسة الانفراد بنوارة وهي تسير وحدها.
الخِسة تستمد قوتها من خطاب إعلامي وسياسي ينشر مناخ الرعب من ٢٥ يناير القادم… يصنع من الثوار شياطين يريدون حرق مصر. في كل مرة تروج السلطة عن مؤامرة وفتنة لتبرر صناعة الشياطين. وفي النهاية تفشل الخطة ويدفع الجالس على الكرسي الثمن بعد أن يكون قد خرب جزءاً من الروح.
هم يواجهون الروح التي صنعت الثورة بروح السراديب وعصابات الشوارع الخلفية. وكما لن يمحى من الذاكرة صوت نوارة المرتعش عن نهاية دولة الظلم… لن تمحى الغصة التي عصرت القلب عندما شوهدت في الفيديو ترفع ذراعها لتحمي وجهها ورأسها.
كل هذه الخِسّة والوضاعة والانحطاط في مواجهة فتاة تسير بمفردها في الشارع؟ إنهم متفوقون في الغباء والخِسة… نزعت السلطة منهم عصب الإنسانية وحولتهم إلى وحوش تركوا ضمائرهم وديعة عند الشخص الذي يقودهم من السراديب. يا رجل السراديب اظهر في النور.