تفاقمَ النزاع الطائفي داخل حزب البعث العراقي المحظور أخيراً، وبلغ ذروته مع صدور بيان جديد مؤرخ في ثاني أيام السنة الجديدة. البيان موقّع باسم «تنظيمات الفرات الأوسط والجنوب»، التي يرجّح مراقبون متخصصون بالشأن العراقي أن يكون حامد منفي الكرافي أحد قادتها. البيان يكرر اتهامات سابقة، وتحذيرات مما وصف بـ«سيادة النهج الطائفي في قيادة البعث ـــــ جناح عزت الدوري»، نائب الرئيس الراحل صدام حسين. اتهامات يمكن فهمها سريعاً من عنوان البيان الذي جاء فيه حرفياً أن «منظمات البعث في الفرات والجنوب تستهجن وترفض تعيين قيادة أصلية من السُنّة وقيادة احتياط من الشيعة».
يُفهم من البيان أنّ قيادة جناح الدوري عقدت اجتماعاً تنظيمياً مصغراً لعدد محدود من أعضاء «قيادة قطر العراق» قبل نهاية العام الماضي. والهدف من الاجتماع، مثلما يكشفه البيان نفسه، كان «معالجة الأخطاء وسياسة التهميش والإقصاء» التي سبق لهذه المنظمات البعثية الناشطة في المحافظات ذات الغالبية العربية الشيعية، أن اشتكت منها في عدة بيانات وتصريحات. البيان الجديد يرى أن قرارات الاجتماع المصغَّر خاطئة، لذلك فهو «يستهجنها ويرفضها ويعتبر الاجتماع المذكور غير شرعي». السبب في ذلك، كما قيل، هو أن تلك القرارات نصت على «تشكيل قيادة أصلية من الرفاق السُنّة فقط، وقيادة احتياط من الرفاق الشيعة فقط». وقد وضع بيان «تنظيمات الفرات الأوسط والجنوب» في «البعث» هذا الإجراء في خانة «الكفر والاستهانة غير المسبوقة بشريحة مهمة من التنظيم، فلا يصح أن يعتبر البعثي بعثياً من الدرجة الأولى أو الدرجة الثانية بحسب طائفته، بل يكون التقويم نتيجة العمل والجهاد والتضحية، فإن حصل التقويم وفق معيار السُنّة والشيعة، فهذا يعتبر خطاً أحمر وتجاوزاً خطيراً وغير مقبول». بيان منظمات الفرات والجنوب أشار إلى أن العبارة الواردة في قرارات الاجتماع المصغر، والتي نصّت على أن «عدم تنفيذ هذه القرارات يعني التمرد على الشرعية»، تتضمن «تهديداً صريحاً عن عمد ودراية ومحاولة فرض واقع مرّ من خلال قرارات ذات صبغة طائفية ومناطقية»، حتى إن القيادي البعثي، حامد منفي الكرافي، لمّح، في مداخلات صحافية، إلى احتمال أن تعمد قيادة عزت الدوري إلى الوشاية بالرافضين لقراراتها إلى «جهات معينة» كعقوبة لهم. وقد خُتِم البيان بقرار لهذه المنظمات ينص على «عدم التعاطي أو الارتباط بأي من أعضاء قيادة قطر العراق في الداخل والخارج، ومواصلة العمل التنظيمي وفق مقررات قيادة تنظيمات الفرات الأوسط والجنوب المتخذة العام الماضي بحسب التفاهمات المسبقة مع القيادة القومية». ورأى محللون عراقيون أنّ قيادة هذه المنظمات، وإن كرّست انشقاقها عن جناح الدوري، غير أنها لم تنضمّ إلى الجناح الآخر المنافس للدوري، والذي يُدعى «قيادة قطر العراق ـــــ المؤتمر الاستثنائي».
ومن المعلوم أن قيادة حزب البعث العراقي انقسمت إلى جناحين: الأول يُدعى «قيادة قطر العراق» بزعامة عزت الدوري، والثاني هو «قيادة قطر العراق ـــــ المؤتمر الاستثنائي»، نسبةً إلى المؤتمر الاستثنائي الذي عقدته مجموعة محمد يونس الأحمد، وقررت فيه فصل عزت الدوري لأنه «خان» الرئيس المعدوم صدام حسين، «بعدما وشى بعثيون من أقارب الدوري بمكان اختبائه لقوات الاحتلال» عام 2003. وقد استغرب المحلّلون كيف أنّ مجموعة الكرافي لم تنضمّ إلى الجناح الثالث في البعث، والذي نشأ نتيجة اندماج أو تحالف مجموعة من المنظمات البعثية في تيار يدعى «تيار الانبعاث والتجديد»، ومن أشهر قياديّيه الدكتور عبد الخالق الشاهر، أستاذ العلوم السياسية سابقاً في جامعة عسكرية تابعة لنظام البعث. عارفون بالشأن البعثي العراقي أكّدوا أنّ الحديث عن نزاعات وخلافات ذات جذور أو دوافع طائفية مذهبية في «البعث»، ليس أمراً جديداً، فقد سبق لقيادات بعثية انشقت عن الحزب أن انتقدت أو لمحت إلى وجود ميول طائفية «سُنّية» لدى قيادة جناح الدوري. فبعد المؤتمر الاستثنائي لمحمد يونس الأحمد، وقرار طرد الدوري، بدأت قيادة الأخير تغمز من قناة الأحمد لكونه «من أصول شيعية، وينحدر من مناطق يسكنها الشيعة في محافظة نينوى». وقد ردّ بعثيون مؤيدون للأحمد بأن الدوري «يتشبّث هو ومجموعته بقيادة الحزب، تاركاً للرفاق من الشيعة الوظائف الإعلامية والإدارية التي لا أهمية لها». ووفق تعبيرهم، يندرج في هذا السياق «إصرار الدوري على تنصيب شخص شيعي كناطق رسمي باسمه هو خضير المرشدي، وهو شيعي من أهالي مدينة الحلة، وحتى عندما سرت شائعة استبداله قبل فترة، تردّد أن بديله سيكون شيعياً أيضاً من محافظة ذي قار».
ومن أوائل البعثيين الذين تحدثوا صراحةً عن هذا الموضوع، عبد الخالق الشاهر، قائد جماعة «التوحيد والمراجعة» الذي انضم لاحقاً إلى تيار «الانبعاث والتجديد». الشاهر اتهم الدوري بـ«إثارة الحساسيات الطائفية جراء خطابه السلفي، على عكس صدام حسين الذي كان يتجنبها حفاظاً على علمانية حزب البعث»، لكن الشاهر أرجع الصراع بين الدوري والأحمد الى منافسة على الزعامة، لا الى دوافع طائفية صريحة.
ردود الأفعال على البيان وتداعياته، وخصوصاً بين البعثيين العراقيين ومن خلال صحفهم الإلكترونية ومواقع التواصل المقربة منهم، جاءت لتعكس خلفيات النزاع موضوع الحديث وطبيعته، وتنوّعت بين توجيه الاتهامات للبيان ومَن يقف خلفه، وبين مدافع عنه وعن مضامينه. وفي السياق، لفت أحد البعثيين المقيمين في سوريا إلى أن البيان «ركيك ومفبرك من قبل الاستخبارات العراقية»، وجزم بأنّ ما ورد فيه «كذب ودجل». وقد رد عليه شخص آخر يُدعى رياض المحاويلي بحدة، وطالبه بـ«الاعتذار من الرفاق في منظمات الفرات والجنوب». ردود أخرى مناوئة للبيان كررت هذه الاتهامات وغيرها، وردّ عليها أيضاً حامد الكرافي، الذي يرجّح المراقبون أنه الناطق المخوّل باسم تلك المنظمات، وسرَد أمثلة موثّقة بالأسماء والحيثيات عن «مذهبية» نهج «البعث»، الأمر الذي يشي بكونه على اطلاع تام ببواطن الموضوع. مثلاً، ورداً على من احتج على عدم نشر القرار الخاص بتنصيب «قيادة أصيلة من السنة واحتياطية من الشيعة» في مواقع الحزب الرسمية كـ«البصرة نت» و«المنصور»، قال الكرافي إنّ من غير المعقول أن تقوم تلك المواقع بنشر قرار «بهذا السوء»، إضافة إلى أن نشر قرارات تنظيمية علناً في مواقع الحزب «أمر غير مألوف». وسرد الكرافي بعض الأمثلة عن كوادر حزبية معروفة، بينهم راضي حسن سلمان وقائد العوادي، ملمحاً إلى أنهما من أسر شيعية، وشرح كيف تم انتخابهما عضوَي احتياط في قيادة الحزب في عهد صدام حسين، وأنهما ظلّا بتلك الصفة حتى انتبه صدام نفسه إلى هذه الحالة غير الطبيعية فأجرى، كما قال الكرافي، «موازنة، ولو محدودة على القيادة».
صحيفة «الرشيد» الإلكترونية ذات التوجهات البعثية، والتي تبدي غالباً تعاطفاً مع جميع الأجنحة والجماعات البعثية المنشقة، باشرت منذ عدة أشهر نشر سلسلة وثائق قديمة وجديدة، تحت عنوان معبّر هو «ويكيليكس البعث». ثم نشرت رداً آخر للكرافي تناول فيه قرارات قيادة الدوري الأخيرة، وأورد عدداً منها لتوثيق الاتهامات الموجّهة من قبل منظمات الفرات والجنوب، فعلق عليها ونقدها. ومما قاله الكرافي إن «الحزب وقواعده الحقيقية في وادٍ، وبعض الأشخاص الذين يتحكمون بمصير الحزب في وادٍ آخر». كما كشف الكرافي عن بعض القرارات التنظيمية التي صدرت عن الاجتماع المصغّر لمنظمات الفرات والجنوب، والتي لم يكشف عنها البيان، ومنها تنسيب الكادر البعثي صبار المشهداني، «وهو من أسرة سنية»، ليكون مشرفاً على تنظيمات محافظات البصرة وذي قار وواسط وبابل وكربلاء والنجف والقادسية وميسان والمثنى، على أن «تتم مفاتحة مكتب أمانة سر القطر من خلاله حصراً». كما رفضت قيادة الدوري تصعيد «الرفاق مسؤولي تنظيمات تلك المحافظات إلى عضوية القيادة بذريعة أنهم بحاجة إلى فترة تأهيل واختبار». قرارات وصفها الكرافي بأنها «كارثية وغير محمودة العواقب». وقد علق كادر بعثي آخر هو سليم الخالدي على البيان المذكور، بالقول «من الممكن أن نجد تفسيراً لكل الأمور السابقة التي تم تداولها، ولكن هذا الموضوع مرفوض لكونه فضيحة بكل ما تعنيه الكلمة. والآن، وأنا أقرأ هذا الكلام، تدمع عيني مما وصلت إليه حال الحزب».
وإلى جانب أحزان بعثيين كالخالدي، نجد أيضاً شيئاً من خفة الدم لدى بعضهم، إذ علق أحدهم في صحيفة «الرشيد» بتهكم وسخرية فكتب: «إن الدستور العراقي الذي كتبه (الحاكم الأميركي بول) بريمر لا يسمح للبعث بالعمل السياسي، وكثير من الرفاق تفنّن في تغيير الاسم، فالبعض سمّاه حزب العودة، والبعض الآخر لا يزال حائراً، واعتقد أنّ الاسم الجديد المقترح هو حزب البعث الشيعي لصاحبه حزب البعث السني، وبذلك يمكن الاستحصال على إجازة للحزب بهذا الاسم الجديد».



بغداد تحتجّ لدى السفير التركي


استدعت وزارة الخارجية العراقية، أمس، السفير التركي في بغداد، احتجاجاً على تصريحات لمسؤولين أتراك اعتبرها رئيس الحكومة العراقية نوري المالكي (الصورة) «تدخلاً في الشأن الداخلي العراقي». وأوضح بيان لوزارة الخارجية العراقية أن «وكيل الوزارة محمد جواد الدوركي استدعى السفير التركي في بغداد، يونس دميرار، ونقل له قلق الحكومة العراقية من التصريحات التي صدرت أخيراً عن مسؤولين أتراك». وكان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان قد دعا زعماء مختلف الكتل السياسية والدينية العراقية، إلى «الإصغاء لضمائرهم» للحؤول دون أن يتحول التوتر الطائفي في بلادهم إلى «نزاع أخوي». وقد رد المالكي على كلام أردوغان بالتحذير من خطورة نشوب صراع طائفي قد يؤدي إلى «كارثة لا تسلم منها تركيا نفسها». غير أن السفير التركي أشار إلى أن ما صدر من تصريحات على لسان المسؤولين الأتراك كان «بنيّة حسنة».
(أ ف ب)