بغداد ــ الأخبار عندما اقتحم نوري المالكي الحياة السياسية العراقية لم تكن تحضر في ذهن معظم العارفين بالوضع العراقي، سوى صورة ذلك الشاب المقيم في أحياء حارة حريك في ضاحية بيروت الجنوبية، والمنتمي إلى حزب الدعوة الاسلامي حيث كان يتعمد تأدية الصلاة خلف الراحلين آية الله محمد حسين فضل الله تارة وآية الله محمد مهدي شمس الدين تارة أخرى، ولعل في هذا ما يعتبر إشارة مبكرة لشخصية ابو اسراء المختبئة خلف نظارات تحتل مساحة واسعة من وجهه.

المالكي وفنّ الممكن

التعريف المتداول للسياسة بأنها فن الممكن لم يكن ترديد درس أكاديمي للمالكي، فأدخله في كل مفصل من قراراته، ما عكس نباهة لدى الرجل دفعت الكثيرين إلى نعته بـ«نبيه بري» العراق، نسبةً للمدرسة التي أرساها رئيس مجلس النواب اللبناني في تدوير الزوايا، وإبقاء القنوات مفتوحة مع المتناقضين فضلاً عن طريقته في بث الرسائل.
النموذج تكرر في العراق على يدي المالكي، ومن التفت إلى وقفته في حضرة باراك أوباما في واشنطن يستنتج ذلك، وخاصةً لدى سؤاله عن الأزمة السورية. فهو لم يسمح لنفسه بدعوة رئيس آخر للتنحي بل استفاض في شرح معاناة العراق جراء التدويل والفوضى، وقبل هذا كان استغلال لتهنئة نائب الرئيس الأميركي بالسلامة بعد عملية اجراها لعينه، حين دعاه إلى إجراء عملية في العين الاخرى، فما كان منه إلا أن أجابه بأنه سيجريها في طهران.
وعلى ذكر طهران فإن «أبو اسراء»، ورغم الخط المباشر مع البيت الأبيض، حرص، دورياً، على نيل بركة الجمهورية الإسلامية عبر مرشدها الأعلى الإمام السيد علي خامنئي، كلما اصطدم بجدار القرارات التاريخية، كما حصل فترة التفاوض على الاتفاقية الأمنية وقبله إبان فترة الاقتتال الطائفي الذي حثت طهران على انهائه في اكثر من مناسبة.
ما سلف لم يكن سوى نذر من إبداعات الرجل التي ادت على ما يرى أبناء تياره إلى إخراج الاحتلال، فروجوا للفكرة بلافتات زرعوها في شوارع بغداد تشكر المفاوض العراقي على إنجازه، والمفاوض هنا هو نفسه المالكي الذي استطاع، بحسب هؤلاء، خلال سنوات قليلة اجتراح معجزة فرض القانون واجتثاث البعث ومأسسة الجيش، بعد فرض هيبته في معظم المحافظات، دون أن يجد حرجاً في تصادم دموي حتى مع أبناء جلدته على نسق ما حصل في صولة الفرسان عام 2008، كل هذا ليقنع المحتل بتعافي العراق من فوضى السلاح والموت المتجول.
في المحصلة، فإن ما استطاع نوري المالكي أن يحققه في فترة وجيزة من الزمن، وبحسب مريديه، يجعله السيد «عراق»، فهو حقق ما لم يكن يتوقعه أكثر المتفائلين في نقل العراق من نموذج القتل والأمن المفقود الى البلد المحور الذي سيجمع وجهات النظر المتناقضة، تماماً كما حصل في المبادرة تجاه الأزمة في دمشق ولكن ...

الوجه الآخر ... لعبة الشيطان

حرفية «السيد رئيس الحكومة» في شطرنج الأمم، لم تنسحب على همّ الأمة العراقية، بحسب ما يقول البعض. والبعض هنا بالمناسبة من حلفاء المالكي في الحكومة، فكل ما ينسب له من انجازات يتلاشى بوجه المواطن عندما يهم بقراءة صفحة الفشل الداخلي للحكومة والمبتدئ بضعف المؤسسات وغير المنتهي بسوس الفساد والمحسوبية.
وعلى غرار أمثلة نباهة المالكي، فإن لهذا الكسل الحكومي أمثلة جمة، إذ ان بلد الاحتياطي الأول للنفط في العالم لا تنعم عاصمته، بأحيائها الراقية دون الفقيرة، بالكهرباء سوى ساعتين نهاراً في أحسن الأحوال. كما أن ساكنيها يعانون يومياً من عدم توفر المياه وهي المدينة المخترقة بنهر دجلة، وفي المثالين فإن خططاً واضحة لتحسين الواقع لم تقدم حتى الساعة وإن قدمت فإنها ومنذ اشهر وسنوات بقيت مهملة في الأدراج.
فضلاً عن غياب التخطيط، فإن سوس الفساد والسرقة اتخذ سبيله إلى معظم المشاريع في العراق وبمختلف أنواعها. وكمثال على ذلك فإن شارع أبو نواس، أحد أهم الشوارع السياحية في العاصمة، والذي قامت شركة عراقية بتحسينه وتأهيله منذ أشهر عدة، أعيد ولسبب ما «نبشه» ليتبيّن أن شركة تركية التزمت مشروع تطويره وتحسينه من جديد، وذلك بالاتفاق مع بعض النافذين في وزارات معنية.
الوزارات المعنية هذه وغيرها يكشف الغوص في خباياها العجب العجاب، فلا معايير تعيين أو توظيف أو استخدام فيها، حتى أن تعيين كبار المديرين بات ينعم بتسعيرته الخاصة حيث تعمد معظم الأحزاب الكبرى إلى تعيين مديرين في مواقع حساسة بعد دفع مبالغ مالية تصل الى 200 ألف دولار.
ما سلف، وإن قل، يدلّ على أن حكومة المالكي، صاحبة «انجاز إخراج الاحتلال»، تخفي وجهاً آخر يجعل منها شبيهة بالقمر ببعديه القريب والبعيد، وهذا ما حدا بالمرجع الديني علي السيستاني الى إغلاق بابه بوجه الساسة، وفي مقدمهم رئيس الحكومة، ورب قائل هنا إن المسؤولية في ذلك لا تقع على عاتقه وحده، ولا بد من التماس عذر له، وهو المنشغل بدهاليز السياسة الخارجية.
هذا الاستخفاف مردود عليه في أحسن الاحوال منذ 1/1/2012، فالآن انسحب الاحتلال «الذريعة» وانتهت سيطرته على المؤسسات ويجب أن تنحصر الأولوية بخدمة الناس ومحاربة الفاسدين، ولعل هذا ما يدفع البعض الى تبنّي خطاب معارض بهدف تحسين العمل الحكومي. الحقيقة أن نوري المالكي يحتاج أكثر من المواطنين الى حكومة تنهض بالعراق الجريح، يحتاج إلى ذلك لأن «صاحب الفضل بإخراج الأميركي بحسب قناعته»، سيدخل نادي الكبار بامتياز لو نجح بالنهوض بالعراق، وهذه حقيقة لا يغفلها شخص بحنكة «الحاج جواد» (أحد اسمائه القديمة).
الديكتاتور الجديد، على حد وصف خصومه، لا يبشر بذلك، فهو ذهب الى تصادم مبكر مع نائب رئيس الجمهورية طارق الهاشمي لا أحد يعلم عواقبه، يكمل هؤلاء بالقول: «إن الآتي أعظم فهو رجل مفطور على المواجهة السياسية».