تعدّدت القراءات للمقال الذي نشر أخيراً في صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، والذي بدا كإعلان مدفوع الثمن مثلما يحدث عادة في مقالات مشابهة، وجاء هذه المرة موقعاً بأسماء ثلاثة من زعماء قائمة «العراقية» هم رئيس البرلمان أسامة النجيفي وزعيم الكتلة اياد علاوي ووزير المال رافع العيساوي. يتوجه كاتبو المقال إلى قراء «نيويورك تايمز» وعبرهم إلى الجمهور العام والمؤسسات التنفيذية والتشريعية الأميركية وخصوصاً الكونغرس، عارضين شكاواهم ووجهات نظرهم بطريقة لا تخلو، بحسب بعض القراءات، من تحريض واستعداء الجانب الأميركي على الشريك في العملية السياسية. يتخذ هذا التحريض، وفق تلك القراءات، مستوَيين: الأول سياسي مباشر يستهدف رئيس الوزراء نوري المالكي بالاسم والصفة، والثاني طائفي مضمر تشي به بعض التحذيرات من قبيل «سقوط الحكم والأسلحة الأميركية الحديثة بيد طائفة واحدة». الكلمات الست الأولى من المقال تعطينا صورة عن رؤية كاتبي المقال لواقع الحال العراقي، وهي رؤية « قياموية» شديدة التشاؤم، تنذر صراحة بمآل الحرب الأهلية، فتقول «يقف العراق اليوم على حافة كارثة». يبرئ المقال الرئيس الأميركي باراك أوباما من أي إدانة، فهو «وفى بعهده بإنهاء الحرب، لكن الحرب لم تنته بالطريقة التي قاتل جنودكم من أجلها لإيجاد دولة ديموقراطية بل أوجدت دولة طائفية استبدادية».
كاتبو المقال يعرفون أنفسهم بـ«نحن قادة العراقية، التحالف الذي فاز بأغلب المقاعد في انتخابات 2010 ونمثل أكثر من ربع العراقيين، لا نظن أنفسنا سنة أو شيعة، بل عراقيين، ونتمتع بجمهور انتخابي يمتد في البلد كله. ونحن الآن مطاردون ومهددون من جانب السيد المالكي، الذي يسعى إلى طردنا من الحياة السياسية العراقية وإقامة دولة الحزب الواحد الاستبدادية». يمكن الملاحظة أن عبارة «فاز بأغلب المقاعد» الواردة، غير صحيحة، لأن أصحاب المقال فازوا بأكبر عدد من المقاعد التي تفوز به قائمة انتخابية، ولم يفوزوا بأغلبية المقاعد عموماً، فذلك كان يقتضي الفوز بـ163 مقعداً من مجموع 325، وليس بـ 91 مقعداً نالتها «العراقية». غير أن هذا يبقى تفصيلاً قد لا يقدم أو يؤخر.
يضيف كاتبو المقال أن «بيوتنا ومكاتبنا أُحيطت في المنطقة الخضراء بقوات المالكي الأمنية. وضرب الحصار على حزبنا، وقد فعل السيد المالكي ذلك بمباركة القضاء المسيَّس ونظام انفاذ القانون الذي أصبح امتداداً فعلياً لمكتبه الشخصي. فقد اتهم نائب رئيس الجمهورية، طارق الهاشمي، بالإرهاب، وتحرك لطرد نائب رئيس الوزراء صالح المطلك، وسعى إلى إجراء تحقيق مع واحد منا، رافع العيساوي، بحجة ارتباطات له مع مسلحين». هنا أيضاً، وفق ما لاحظ محللون، فإن المعاناة ظلت حزبية وفئوية صريحة، إنما لا يمكن نكران حدوث الكثير منها، ولكن، يتساءل بعض المدافعين عن فريق عمل رئيس الحكومة، هل من واجب المالكي أو أي شخص يحكم ويقود السلطة التنفيذية في مكانه أنْ يكتب تبريراته الأمنية والجنائية والسياسية إلى صحيفة «نيويورك تايمز» أو إلى مكتب أوباما حين يريد أن يعتقل شخصاً بطلب من القضاء؟ ينتقل القياديون الثلاثة إلى ما سماه بعض المحلّلين التحريض المباشر ضد المالكي. في هذا الصدد يعتقد البعض أن التحريض السياسي ضد الخصم يبقى مشروعاً ومشروطاً بظروفه، لكنَّ مادة التحريض في مقال قادة «العراقية» تبعث على القلق في نظر البعض، إذ إنهم يأخذون على المالكي، وأمام الرأي العام الأميركي، أنه يرحب بالتعامل مع «إرهابيين في ميليشيات عصائب أهل الحق الشيعية مدعومين من إيران». وبما أنّ لكلمتي إرهاب وإيران وقعاً خاصاً في الأذن الأميركية، فإن الفائدة من التحريض في نظر أصحاب المقال ستكون مضاعفة، لكنها، وفق آخرين، مشكوك بها أخلاقياً.
معلومة «ثمينة» أخرى يقدمها المقال إلى الجمهور والمؤسسات الأميركية: «في هذه الأثناء، يرحب المالكي بدخول ميليشيا عصائب الحق الشيعية المدعومة من إيران، إلى العملية السياسية، وهم الذين اختطف قادتها وقتلوا خمسة جنود أميركيين واغتالوا أربع رهائن بريطانيين عام 2007». هنا يتساءل معلقون ومراقبون كثر عن التبرير والحجة التي يمكن أن يسوقها أهل المقال لاستعمال وسيلة وتفاصيل كهذه، وهل يمكن أن تتساوق مع توجه وطني لمن يكرر أنه وطني وغير طائفي ومناهض للاحتلال؟
سؤال آخر يُطرَح: لنفترض جدلاً أن فصيل «العصائب» مدعوم من إيران، فهل تكمن المشكلة في الدعم الإيراني بحد ذاته، أم لأنه أدى إلى قتل وأسر بعض جنود الاحتلال؟ أسئلة كثيرة قد لا توجد إجابات مقنعة عنها قريباً، لكنها تبقى أسئلة حقيقية، ومن غير الصحيح والأخلاقي كما يرى مراقبون كُثر تحريض الأميركيين وتذكيرهم بأن «هذه الميليشيات الشيعية» قتلت خمسة من جنودهم «الشجعان» واختطفت أربعة من جنود حلفائهم البريطانيين، وها هو المالكي يرحب بانخراطهم في العملية السياسية.
من الطبيعي، استناداً إلى بعض القراءات، أن يبادر أصحاب المقال، بعدما قاموا بمهمة «شَيْطَنَةِ الخصم»، إلى امتداح السيد الأميركي وجنوده «الشجعان»، على حد وصفهم، وأعربوا عن سعادتهم وسوروهم لأن هؤلاء «الشجعان» سيقضون «أعيادهم في موطنهم ونتمنى لهم السلام والسعادة».
قضية أخرى توقف عندها المراقبون، وهي دعوة أصحاب المقال إلى «تقييد» تسليح الجيش والشرطة العراقيين بالأسلحة الحديثة، وربطه بتحقيق الشراكة في الحكم كي لا تسقط تلك الأسلحة «بحوزة طائفة واحدة». هذه الدعوة اعتبرها أحد قادة «التحالف الوطني» الحاكم دعوة إلى تجريد العراق من السلاح، مذكراً بدعوات مماثلة أطلقها الزعماء الأكراد بعد أزمة سياسية حدثت بينهم وبين السلطة المركزية عام 2008، ودعوة كويتية أطلقها النائب ناصر الدويلة لمنع العراق من حيازة طائرات مقاتلة حديثة.
ردود الأفعال الرسمية على هذا المقال لم تكن واسعة بسبب الهدنة الإعلامية بين الأطراف العراقية التي توصل إليها النجيفي في لقائه بالرئيس جلال الطالباني، ومع ذلك، فقد اعتبر النائب قاسم الأعرجي عن «التحالف الوطني» أن هذه «الرسالة غير ايجابية واستقواء بالأجنبي واستعانة باحتلال جديد».
يبقى التطور الأكثر إثارة للاهتمام في صدد هذا المقال هو تبرؤ النجيفي منها علناً؛ فقد أعلن مستشاره آيدن حلمي أن «النجيفي ليس لديه أي علم بمن حشر اسمه مع المطالبين بتدخل الولايات المتحدة لإسقاط حكومة المالكي، وهو الذي يمثل السلطة العليا في البلاد، ومن غير المعقول أن يشتكى إلى دولة أجنبية على الوضع في العراق». ثم صدر بيان ثانٍ مشابه في اليوم التالي كرّر فيه النجيفي براءته من المقال، وكان أكثر وضوحاً في ذلك. حتى أن بعض مصادر «العراقية» سرّبت أنباء عن خلافات حادّة ثارت في قيادة القائمة على خلفية المقال، مع الاشارة إلى معلومات تقول إن العيساوي لم يكن على علم هو الآخر بالمقال، ليبدو وكأن كاتبه وناشره الحقيقي هو علاوي وحده.
الجملة الختامية من مقال زعماء «العراقية» كانت أكثر سوداوية من سواها، لكنها أثارت بعض التعليقات التي لا تخلو من الطرافة، فهي تقول: «إن لم تتصرف أميركا بسرعة للمساعدة في تشكيل حكومة وحدة ناجحة، فالعراق مقضي عليه». أحد المعلقين العراقيين الظرفاء كتب في أحد مواقع التواصل الاجتماعي تعليقاً على هذا التحذير: «يجب على كتّاب المقال أن يستغفروا ربهم، لأنهم جعلوا قدرة أميركا شبيهة بقدرة الله جلَّ شأنه!».