في زمن الرئيس التونسي، زين العابدين بن علي، لم يكن للقصبة (مقر الحكومة) أهمية كبيرة مقارنة بدور مستشاري الرئيس في قصر الرئاسة، قرطاج. كان الحديث المعروف أنّ البلاد تحكمها «حكومة مستشاري قرطاج» لا «حكومة القصبة».
تبدّلت الأدوار مع تبدّل الحكومات منذ 2011، واتبعت حكومات «الترويكا» بقيادة «حركة النهضة» نهجاً جديداً. وكذلك كان في ظل حكومة مهدي جمعة، التي أوصلت إلى إقرار دستور جديد للبلاد، أقيمت على أساسه الانتخابات التشريعة والرئاسية الأخيرة في نهاية عام 2014. الخريطة السياسية المنبثقة عن تلك الانتخابات، كان من نتائجها ترؤس حبيب الصيد لحكومة تقوم على تحالف بين القطبين السياسيين «نداء تونس» و«حركة النهضة»، لكنه تحالف أدى، بصورة عكسية، إلى تهميش دور «حكومة القصبة» مرة جديدة، لأسباب تختلف هذه المرة عما سبق 2011.

ائتلاف «هش»

عقب الانتخابات البرلمانية، طرح إنشاء ائتلاف بين «النداء» الذي حصل على كتلة من 86 نائباً و«النهضة» (69 نائباً)، علامات استفهام عدة، وخصوصاً أنهما كانا خصمين بارزين في الفترة السابقة، وقد جعلا الانتخابات تدور حول خطابهما استقطابي، لكنّ تقاطع المصالح بين الرئيس الباجي قائد السبسي، و«النهضة» وزعيمها راشد الغنوشي، ساهم في بناء هذا الائتلاف الذي يحكم تونس راهناً، بمساندة حزبين آخرين، أقل حجماً.
لم تنتج عن هذا التلاقي حكومة قوية، قادرة على معالجة الأزمات التي ستواجه البلاد في فترات لاحقة. وجاء الحبيب الصيد كمرشح توافقي، يرأس حكومة «الائتلاف» بأحزابه الأربعة، دون التمكن من الإمساك بقرارها.
«الواقع أنّ هذا الائتلاف هش بكل المقاييس»، وفق الباحث التونسي، حمزة المؤدب، الذي يضيف في حديث إلى «الأخبار»، أنه هش «لدرجة تبدو معها الحكومة فاقدة تماما الدعم السياسي برغم تمتعها بثقة عددية واسعة في البرلمان». ويعيد المؤدب «هشاشة هذا التحالف» إلى عاملين رئيسين. «الأوّل أنّ التوافق الذّي صار بين النهضة والنظام القديم ممثلا في نداء تونس لم تجرِ مأسسته بمعنى خلق حوار يقرّب وجهات النظر ويزيل، أو يلطّف، التباينات الإيديولوجية، وحتى ضغائن الماضي (نظراً إلى أنّ) تاريخا من السجون والانتهاكات برسم علاقة هاتين القوتين»، وفقاً له.
ويرى المؤدب أنّه «بالتالي، يبدو التوافق وكأنه توافق بين شخصين، راشد الغنوشي من جهة والباجي قائد السبسي، من جهة ثانية؛ هو توافق أوجده توازن الضعف بمعنى عجز الإسلاميين عن مواصلة الحكم... خوفاً من السيناريو المصري، وعجز معارضيهم، وعلى رأسهم النداء، على تجييش الشارع ضدّ الإسلاميين»، مستنتجاً «أننا لسنا أمام تقارب فكري وسياسي، بل أمام تعامل براغماتي مع سياقات سياسيّة قاهرة قد تتغيّر بموجبه المواقف مع تغيّر السياقات».
في المقابل، فإنّ «النداء» الذي خرج منتصراً من الاستحقاق الانتخابي، هو غيره اليوم، وخصوصاً بعد انشقاق 30 نائباً عنه، وخروج أمينه العام، محسن مرزوق، عليه بفعل الصراعات الداخلية في الحزب. وأول من أمس، أعلن مرزوق حزبه الجديد، وقدّم مشروعه على أنه «استكمال للمشروع الوطني العصري» الذي يستند بالخصوص إلى «فكر الزعيم الحبيب بورقيبة». الأمر الذي يُترجم في السياسة على أن هذا المشروع مناهض لـ«النهضة»، ومناوئ للسبسي في وراثة «البورقيبية»، مع العلم أنّ مسيرة مرزوق تتناقض في عدد من جوانبها مع هذا الإرث.
وعلى هذا المستوى، يشرح حمزة المؤدب أنّ «العامل الثاني (يتمثل في أنّ) الرفض الإيديولوجي لهذا التوافق ولمشاركة النهضة في الحكم خلق أزمة في نداء تونس، تفكك على أثرها الحزب، وخرج (مرزوق) بمشروع خاص، قوامه أساسا معاداة الإسلاميين»، مضيفاً أنّ «الخلافات السياسية داخل نداء تونس أضعفت الحكومة وأفقدتها الدعم، والدليل أن تنسيقية الأحزاب الحاكمة ظلت لشهور غير قادرة على الاجتماع».


مشهد جديد يلفظ التحالفات التقليدية

يؤكد عدد من المتابعين للسياسة التونسية أنّ «نقطة قوة الحكومة والعامل الأساسي في استقرارها هما النهضة والرئيس السبسي»، فيما يشيرون إلى أنّ المشكلة تكمن في أنّ رحكومة الحبيب الصيد غير متجانسة جيداً، وفيها وزراء وأحزاب لا يحافظون على التضامن الحكومي، مما يربك عملها.
ويوافق هؤلاء على أنّ من بين أسباب عجز الحكومة الحالية انّ الحبيب الصيد «شخص ضعيف سياسياً» بالنظر إلى أنّ قطبي «الائتلاف الحاكم» لهما الكلمة الفصل في السياسات الكبرى للحكومة. وهذا واقع تعزز بعدما غرق «نداء تونس» في صراعاته الداخلية، ما حوّل «النهضة» إلى طرف مؤثر جداً في عمل الحكومة، بالرغم من قلة عديد وزرائها فيها.
ويمكن تقصي مدى تمكّن هذه الحكومة على مواجهة الأزمات الناشئة في البلاد، من خلال واقعين: واقع تصاعد التهديد الإرهابي في البلاد؛ وواقع ارتفاع وتيرة الاحتجاجات الاجتماعية والمطلبية في عدد من المناطق، لكن فيما قد يسهّل الموقف السياسي شبه الموحد في تونس في مسار مواجهة التهديدات الأمنية عمل الحكومة، إلا أنّ الحركات الاحتجاجية كشفت عن ما يصفه البعض بـ«القصور» في التعاطي مع واقع كهذا.
يمنح التفاف غالبية القوى السياسية في تونس حول ضرورة مواجهة الخطر الإرهابي سنداً قوياً للحكومة، لكن هناك عدم توافق في البلاد بشأن سبل ذلك. ويشرح الباحث التونسي، حمزة المؤدب، في سياق حديثه، أنّ هذه الحكومة تفتقر «لبرنامج ولخريطة طريق تحدد أولويات الإصلاح، وهي حتماً (تقف) في موضع رد الفعل، وليس إستباق الأزمات ومحاولة تفاديها»، موضحاً أنّ «هذا ما لاحظناه في الكثير من الأزمات... (مثلاً) التعامل مع الأزمات الأمنية يجري بالطريقة نفسها، أي إعلان حالة الطوارئ عقب كل عملية إرهابية، وكذلك فرض حظر تجوال».
على صعيد آخر، واجهت حكومة الحبيب الصيد في الفترة الأخيرة تنامياً واضحاً في حجم الحركات الاحتجاجية والمطلبية، التي يوضح المدير التنفيذي للمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، علاء طالبي، في حديثه إلى «الأخبار»، أنها وصلت إلى «1500 حركة احتجاجية في شهر كانون الثاني/جانفي 2016»، لكنّ طالبي يقول في الوقت نفسه: «لم نر حقيقة تجاوباً من طرف الحكومة لفتح قنوات الحوار مع الحركات الاجتماعية، بل بلغ تعنت الحكومة مضيها قدماً في إقامة حوار حول التشغيل (العمل) متغاضية عن إحداث ورشة نقاش تبحث في الربط بين التشغيل (العمل) ومنوال التنمية، وهو ما يعني إعادة تكرار للسياسات السابقة الفاشلة».
وبهذا الخصوص، يشير حمزة المؤدب إلى أنه «على المستوى الاقتصادي، هناك غياب واضح للرؤية، والدليل أنه يجري العمل على برنامج للتنمية 2016 - 2020، لكن دون تحديد مسبق لمنوال التنمية، وللخيارات الكبرى التي سيجري إتباعها»، مضيفاً أنّ البلاد «في حاجة إلى تغيير منوال التنمية، وخصوصاً أنّ الحالي، الذي وضع في السبعينيات، صار مصدر الأزمات بحكم عدم قدرته على تقليص البطالة وعلى تنمية المناطق الداخلية»، مختتماً بالقول إنه «بالمحصلة، فإنّ البيروقراطية أخذت بزمام الأمور، وهي تدير الوضع في غياب رؤية سياسية».
قد يكون سبب الوصول إلى هذا الوضع الحالي التحالف القائم بين قطبين غير متجانسين، ما أدى إلى ارتهان القرار السياسي في تونس بتوافقهما، وما أثقل عمل حكومة نشأت في ظل مجال ومشهد سياسيين جديدين لا يتناسبان ومبدأ إدارة البلاد وفق صيغ التحالفات السياسية التقليدية. وقد يكون ذلك ما «يجعل هذه الحكومة أشبه بحكومة تصريف أعمال وإطفاء حرائق»، وفق حمزة المؤدب، الذي يؤكد أنّ الحكومة «أضاعت شهوراً، وهي تبحث عن برنامج عمل، وهي حتى اليوم تتخبط من دون رؤية ومن دون خريطة طريق واضحة».
وفي سياق الإشارة إلى المجال والمشهد السياسيين الجديدين، تقول مديرة مكتب «منظمة انترناسيونال الرت» في تونس، ألفة لملوم، لـ«الأخبار»، إنه «لا شك أنّ الميزة الرئيسية للوضع الحالي في تونس هي سيولة المشهد السياسي التي (تعود) في الأساس إلى استمرار فعل ديناميّات الرجة الكبيرة التي أحدثها الحراك الثوري في 2010 - 2011، والتي أدت ليس فقط الى انفراط نظام الرقابة والتأطير الاجتماعي والسياسي الاستبدادي القديم مع هروب ابن علي، بل كذلك إلى دخول لاعب جديد في المعادلة السياسية هو الحراك الاجتماعي والمواطني، الاحتجاجي والمطلبي». وتشرح لملوم أنّ «هذا الحراك، وإن عرف مداً وجزراً خلال السنوات الخمس الأخيرة، إلا أنه مازال يحكم موازين القوى، ويؤثر في شرعية وشروط أخذ القرار من قبل السلطة، كما بدا ذلك جليا إبان التراجع عن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية الذي نص على العفو في قضايا فساد مرتبطة بالنظام السابق».