ارتبط اسم «الهيئة الشرعيّة في حلب» بعددٍ من المآسي التي حملتها «الثورة» إلى العاصمة الاقتصادية للبلاد. من حادثة قتل بائع القهوة الطفل محمد قطّاع على أيدي عددٍ من مسلحيها بعد اتهامه بالكفر، إلى إغلاقاتها المتكررة لمعبر بستان القصر، وما يعنيه ذلك من عزل أحياء حلب الشرقية عن نظيرتها الغربيّة، مروراً باعتداء عناصرها على متظاهري حي مساكن هنانو في أيار 2013، وليسَ انتهاءً بانتهازها كلّ فرصةٍ ممكنة لفرض الرسوم والضرائب، التي لا تعدو كونها وسيلةً لجني المزيد من الأموال.

التأسيس والنّشأة

في العاشر من تشرين الثاني 2012 أسست «جبهة النصرة» في حلب تشكيلاً أطلقت عليه اسم «الهيئة الشرعية» كـ«هيئة قضائيّة» بحتة لمواجهة عمليات السرقة والنهب التي استشرت في المدينة بعد وصول «الثورة» إليها. وسريعاً، انضم إلى الهيئة كلٌّ من «لواء التوحيد»، «كتيبة أحرار الشام»، «لواء الفتح»، و«حركة فجر الإسلام». واختير الشيخ حسن كياري رئيساً لـ«الهيئة» التي اتّخذت من مشفى العيون في حي قاضي عسكر مقرّاً لها، وهو مشفى تابع لوزارة الصحة السورية كلّف مئات ملايين الليرات ليخدم فقراء محافظة حلب، قبل أن «يُحرّره» مسلحو «لواء التوحيد» في تموز 2012 وينهبوا محتوياته. وقد نقلت «الهيئة» أخيراً مقرّها إلى مجمع تجاري سابق، في حي الشعار، على خلفية استهداف منطقة قريبة من المقر السابق ببراميل متفجرة.
تشكّلت نواة «الهيئة» من اثني عشر «قاضياً»، معظمهم محامون سابقون كانوا فاعلين في تظاهرات القصر العدلي ضمن تنظيم «المحامين الأحرار». وكانت أهدافُها المعلنة زاخرةً بالوعود الورديّة. لكن مصدراً معارضاً يؤكد لـ«الأخبار» أن أحد أهم أسباب تأسيسها كان «أسلمةَ» المدينة. وتجلّى ذلك سريعاً عبر رفضها القوانين الوضعيّة بجميع أشكالها. ويقول مصدرٌ واكبَ نشأة «الهيئة» إن «هؤلاء المحامين تبنوا النهج الإسلامي المتشدّد بعد انتسابهم إلى الهيئة، ردّاً على سقوط ضحايا من أقاربهم أيام التظاهر السلمي».
ومنذ تأسيسها، سعت «الهيئة» إلى مواجهة «مجلس القضاء الموحد» الذي أسسه محامون وقضاةٌ سابقون، وتبنّوا فيه القانون العربي الموحد المعتمد من الجامعة العربية، وسعت إلى حصر نفوذه في أحياء الأنصاري والمشهد وصلاح الدين. وعندما حاول «المجلس» وضع يده على مبنى المواصلات القديم في منطقة القاطرجي لتأسيس محكمة في عقر دار «الهيئة»، اعتقل مسلّحوها العاملين في «المجلس».

سير العمل «القضائي» داخل الهيئة

يقدم المواطن شكواه إلى «مكتب الشكاوى» الذي يقوم بدراستها، فإذا وجدها جديرة بتحويلها إلى دعوى، تُسجَّل في الديوان، ثم تُحال على «قاضي التحقيق» الذي ينظر في الدعاوى المدنية والجزائية والشرعية معاً، وينحصر دوره في تبليغ أطراف الدعوى وسماع أقوالهم، ثم كتابة اقتراحاته ورفعها إلى ثلاثة مشايخ تتكوّن منهم المحكمة.
عادة يتولى المُدّعي تبليغ المُدّعى عليه برفعه دعوى ضده، وبوجوب مراجعة «الهيئة». وغالباً يبادر الأخير بالمراجعة فوراً، لأن عدم قبوله المثول أمام محكمة «تحكم وفق الشريعة الإسلامية» قد تحوّله إلى «كافرٍ لا يقبل بحكم الشرع». والمفارقة أنّ المحامين العاملين في «الهيئة» يرأسهم مشايخ ليسوا من دارسي القانون يقضون بين المتخاصمين. والذين تخرجوا منهم في كليّات الشريعة ـــ وهم قلّة ـــ لم يدرسوا في كليّاتهم فقه المعاملات والحدود الجزائية ونحوَها، إلا ضمن حدود ضيقة. لذلك، تتسم أحكام «المشايخ/ القضاة» بالعشوائيّة، عبر خلط العرف، بالرأي الشخصي، بمحاولات حل الأمور المدنية صلحاً بين الأطراف؛ وبتأثيرٍ مباشر للوساطات، وانتماءات المتقاضين السياسية، والعشائرية، والعائلية، وغيرها من العوامل. وغالباً ما يجدُ المختصمون أنفسهم مضطرين إلى الرضوخ لأحكام «الهيئة» تحت سطوة «الشرع»، وعمائم الشيوخ، رغم عدم دقة تلك الأحكام. وبطبيعة الحال، يُعَدّ قرار المشايخ قطعيّاً، فلا وجود لمن يُراجع أحكامهم، لا من الناحية «الفقهية»، ولا القانونية.

«العسكر» خطٌّ أحمر

أما الخلافات بين المسلحين، أو بين المواطنين والمسلحين، فينظر فيها شيخٌ برتبة «قاضي التحقيق العسكري»، وستصادفُك قبل الدخول إلى مكتبه لافتةٌ طريفة كُتب عليها: «يُسمح بدخول قادة الكتائب إلى القاضي بسلاحهم مع مرافقين اثنين فقط»، ويُسمح لهؤلاء أيضاً بدخول مبنى «الهيئة» مع سيارة واحدة!
لا يمكن «الهيئة» محاسبة المسلحين وقادة الكتائب، إلّا بعد تدخل قادة الفصائل المسلحة التي تدعمها لإجبار متزعم مجموعةٍ ما على الخضوع للحكم الصادر ـــ إن صدر بحقه حكم. ومن أشهر الحوادث في هذا المجال حكاية حسن جزرة الشهيرة، عندما دخل مقرّ الهيئة مرتدياً حزاماً ناسفاً، ومهدداً بنسف الهيئة والقضاة إذا قرروا توقيفه. لينتهي الأمر حينها بتركه يغادر ـــ رغم وجود مئات الشكاوى ضدّه ــ بعدما تعهد بدفع مبلغ كبير من المال.
في «الهيئة» مناصب كثيرة، منها «مدير السجون» و«النائب العام»، وأبرزها «رئيس المكتب القضائي» الذي يشغله حاليّاً «الشيخ أسامة» من «جبهة النصرة»، وهو أعلى جهة قضائية وبمثابة «وزير العدل». وللهيئة «مجلس شورى» يضم «ممثلين شرعيين» عن كل من الفصائل المُشكّلة لها. والطريف أن جميع القرارات، والمعاملات، والأحكام تصدر موقّعة باسم «أبو فلان»، أو «القاضي الشيخ فلان».

مكاتب «خدميّة» وضرائب بلا خدمات!

تطور عمل «الهيئة الشرعية»، التي يرأسها الشيخ محمد عبد الرحمن أبو جابر، ليتخطّى العمل القضائي. واسُتحدثت فيها ــــ علاوةً على المكتب القضائي ــــ مكاتب «خدمية»، منها «المكتب الصحي»، «مكتب الماء والكهرباء»، «مكتب الطحين والخبز»، «مكتب العلاقات العامة» الذي يرأسه الشيخ أبو عز الدين، «المكتب المالي» و«مكتب الإدارة العامة والخدمات» الذي يرأسه «الشيخ أبو ياسين» من «النصرة».
يتولى المكتب المالي جباية الضرائب، وقد فرض سابقاً على كل من يريد إخراج بضاعة من معبر بستان القصر دفع رسم قدره ألف ليرة للهيئة، فضلاً عمّا كان يدفعه للمجموعات المسلحة التي كانت تتوارث السيطرة على المعبر. وبعدما سيطرت «الهيئة» على المعبر أخيراً، وحددت المواد المسموح مرورها، صار الرسم خمس عشرة ليرة سورية فقط. ولتعويض تراجع العائدات، أوجدت «الهيئة» البديل فوراً؛ إذ فرضت رسماً قدره 250 ليرة شهرياً على كل بسطة، و500 ليرة شهرياً على كل دكّان بذريعة أنها «رسوم نظافة وحراسة». وتواجه هذه الرسوم باستياء كبير، وخاصةً أن النظافة معدومة في المناطق الخاضعة لسيطرة الهيئة وفصائلها المسلحة.



المحامون «رجسٌ من عمل الشيطان»

منذ انطلاقتها، كان عددٌ قليل من المحامين يترددون إلى «الهيئة» بعدما أرخوا لحاهم. لكن وجودهم لم يكن مرحّباً به؛ إذ إن هؤلاء يُمكن أن يعترضوا بحججٍ مقنعةٍ على أحكام «المشايخ»، الأمر الذي لا يجرؤ المواطنون على فعله. وفي مطلع الشهر الجاري، أصدرت الهيئة قراراً يعلن عدم اعترافها بوكالة أي محام «إلا بعد اعتماده وكيلاً لديها»، حيث يجب على المحامي تسجيل اسمه في جداول، تنظر فيها الهيئة، وقد توافق على مراجعته أو لا. وحتى في حال الموافقة، يجب على المحامي الحصول على موافقة القاضي (الشيخ) لاعتماده محامياً في محكمته. ونصّ القرار أيضاً على عدم جواز تقاضي المحامي أتعاباً تتجاوز المئة دولار في الدعوى الواحدة. وردّ تنظيم «محامو حلب الأحرار» ببيان قالوا فيه إنهم كانوا «من أوائل من خرج ضد النظام دعماً للثورة من خلال تظاهراتهم في القصر العدلي بحلب خلال العامين المنصرمين، بغية إقامة دولة الحق». ولا يُخفي عضوٌ سابق في «محامي حلب الأحرار» شماتته بـ«المحامين الأحرار»، ويقول لـ«الأخبار» إن «المحامين الأحرار قاموا تدريجياً – بدعم من الهيئة – بإقصائنا نحن العلمانيين، والمعتدلين، وأبقوا المتشددين بين صفوفهم، وكانت النتيجة أنّ وجّهت الهيئة إليهم هذه الصفعة».