وفاة الرئيس السابق لجنوب افريقيا، نيلسون مانديلا، كانت مناسبة للإعلام العبري، كي يعيد عرض العلاقات المتردية بين الجانبين وتقويمها، وهي ما زالت متأثرة بتاريخ طويل من الدعم والصداقة وتبادل المصالح، بين الدولة الصهيونية ونظام الفصل العنصري – الابارتهايد، الامر الذي لم تنسه جنوب افريقيا الجديدة، رغم كل جهود تل ابيب لرأب الصدع بينهما.
نائب وزير الخارجية الاسرائيلي السابق، ما بين 1992 و 1995، يوسي بيلين، كشف في حديث تلفزيوني، ان العلاقات ما زالت متأثرة سلباً بسياسة اسرائيل الخارجية، التي دعمت طويلاً نظام الفصل العنصري، على حساب الاغلبية السوداء في هذا البلد، لافتاً الى عاملين اساسيين ميّزا هذه السياسة، وأحدهما هو العلاقات الامنية والعسكرية، والآخر كان شبه محجوب عن التداول، وهو تأثير «المجتمع اليهودي» في جنوب افريقيا، بعد ان ربط مصيره ومصالحه بمصير نظام التمييز والفصل العنصري.
من جهتها، عرضت صحيفة «هآرتس» للعلاقات الامنية المتميزة بين البلدين، واشارت الى ان نظام الأبارتهايد كان الزبون الأكبر والأكثر أهمية للصناعات العسكرية الإسرائيلية على مدى نحو عقدين، وهو موّل عدداً من المشاريع الكبرى والأكثر طموحاً في هذه الصناعات. وكانت جنوب أفريقيا أيام الحكم الأبيض «زبوناً أسيراً»؛ فجيشهم كان يتمتع بموازنات ضخمة، والغرب فرض عليه عقوبات وامتنع عن تزويده بالسلاح، وهنا لم تترد اسرائيل بالمبادرة، وحلت مكان الغرب كمصدر أول للسلاح للجيش الجنوب أفريقي.
ورغم حرص الإسرائيليين على تصوير اندفاعهم باتجاه تطوير العلاقات مع جنوب أفريقيا بأنه وليد العزل الذي كانوا يعانونه على المستوى الإقليمي والدولي، فضلاً عن حاجة اقتصادهم إلى العملات الصعبة التي وجدوا في الخزينة الجنوب أفريقية مصدراً سخياً لها، فإن التدقيق التاريخي في مسار هذه العلاقات لا ينسجم مع هذا الطرح. فمن المعلوم مثلاً أن التعاون العسكري بين الجانبين وصل إلى ذروته في منتصف الثمانينيات، أي خلال الفترة التي بدت لاحقاً أنها حقبة المنازعة لنظام الفصل العنصري. كذلك إن المحطة التي أعطي فيها الزخم لهذه العلاقات كانت ما بعد حرب أكتوبر عام 1973، أي الحرب التي حصلت فيها تل أبيب على مساعدات أميركية مفتوحة ضمنت لها تعديل وجهة المعارك وكرستها حليفاً استراتيجياً للقوة الغربية العظمى. لكن أياً يكن، فإن المؤكد أن العلاقات مع نظام الفصل العنصري الجنوب أفريقي كان بالنسبة إلى إسرائيل وسيلة بالغة الأهمية لتمويل صناعاتها العسكرية وتطوير منظوماتها التسليحية وخفض أكلاف إنتاجها نتيجة إضفاء البعد التجاري على عملية الإنتاج. ووسط دائرة التحفيز الاقتصادي هذه، لم تجد مؤسسات الحكم الإسرائيلية صعوبة في تسويغ القيمة الأخلاقية لعلاقتها بنظام الأبارتهايد، إذ أوجدت نوعاً من المماثلة مع الحالة الإسرائيلية، وفقا لرؤيتها؛ «ففي جنوب أفريقيا ثمة أقلية بيضاء مهددة من أكثرية سوداء، وفي إسرائيل أقلية يهودية مهددة من قبل محيط عربي معاد». ووفقاً لأحد المعلقين الإسرائيليين، كانت العلاقات بين تل أبيب وبريتوريا «علاقات دم وعرق وأمعاء، وإلى الجحيم بفصل السود عن البيض».
وكان الرئيس الإسرائيلي الحالي، شمعون بيريز، من أبرز الشخصيات الإسرائيلية التي عملت على تطوير العلاقات الأمنية السرية بين تل أبيب وبريتوريا، وكان بيريز من مهندسي «أيسا»، اللجنة المشتركة بين إسرائيل وجنوب أفريقيا، التي عُهد إليها بتطوير العلاقات بين الجانبين وتنسيقها على مستويات عدة، بدءاً بالموظفين والضباط، وصولاً إلى الوزراء، وكانت تعقد اجتماعاتها في زوريخ ولشبونة.
وبحسب أمير أورن في هآرتس، فإن بعض أوجه العلاقات الأمنية بين الجانبين تكشفها الوثائق الجنوب أفريقية التي أخرجتها سلطات بريتوريا ما بعد انهيار نظام الفصل العنصري من الأرشيف ووضعتها بين أيدي الباحثين والناشطين. وتسلط هذه الوثائق، الموجودة في معهد ويلسون في العاصمة الأميركية، الضوء على جوانب مختلفة من العلاقة بين إسرائيل ونظام الأبارتهايد. وتتضمن هذه الوثائق على سبيل المثال تلميحات إلى شراكة إسرائيلية في برنامج جنوب أفريقيا النووي الذي جُمّد في نهاية المطاف، وفُكِّكت القنابل النووية الست التي أنتجها قبيل تسليم السلطة للسود مطلع تسعينيات القرن الماضي. وتكشف الوثائق عن مداولات كثيرة جرت بين الطرفين تتعلق بتطوير صواريخ أرض أرض متوسطة المدى عرفت لاحقاً بـ«أريحا» أو بلقبها الجنوب أفريقي «شيله». ومن ضمن ما تتحدث عنه الوثائق اقتراح تقدم به بيريز لبيع جنوب أفريقيا نصف ما تنتجه مصانع دبابة ميركافا الإسرائيلية، ومعدله عشرة دبابات في الشهر بسعر هو 810 آلاف دولار للدبابة، على أن يصل عدد الدبابات المبيعة في نهاية الصفقة إلى 1000. كذلك تكشف الوثائق عن خطط مشتركة بين الجانبين لإقامة مدرسة في منطقة حيفا تخصص لأطفال جنوب أفريقيين بيض «يأتون للعمل في برنامج مشترك في مشروع أمني مجاور».