من بين المواضيع التي يرغب جمهور قناة «الميادين»، التركيز عليها، لم يحز أي موضوع نسبة يُعتدّ بها، لكن أغلبية المصوّتين (67 في المئة)، طالبت بالتركيز على سوريا أولا. وأستطيع الادعاء بأن النسب نفسها كان سيظهرها استفتاء بين جمهور قناة «الجزيرة» المُضادّ، بل إن أياً منّا يمكنه أن يلاحظ أن سوريا هي محور الاهتمام الساخن بالنسبة لقرّاء المقالات والمشاركين في الحوارات الشخصية والفيسبوكية ومتابعي البرامج السياسية التلفزيونية؛ هناك شعور عربي جَمْعي يتمحور حول القضية السورية.
مصر ـــ أم الدنيا ـــ بتحولاتها التاريخية، والعراق بمأساته، ولبنان بانفجاراته، والملف النووي الإيراني بحضوره الإقليمي والدولي، والجماعات التكفيرية الإرهابية بمخاطرها المفتوحة الاحتمالات، مواضيع لم تحظ، في استفتاء «الميادين»، بمهتمّين أكثر يزيدون عن بضع نقاط، فما بالكم بالبحرين وتونس الخ؟ الأكثر إثارة للدهشة أن فلسطين، قضية العرب الأولى ـــ المركزية، لم تُذكر أصلاً؛ ربما جاءت في سياق «مواضيع أخرى»، رغم أن القناة، صاحبة الاستفتاء، تخصص حوالي ربع بثها للشأن الفلسطيني.
دحر حزب الله، العدوان الإسرائيلي، في صيف العام 2006، لكن ذلك الحدث العظيم في تاريخ العرب الحديث، لم ينطو على الأبعاد الاستراتيجية والدرامية المرتبطة بمشاركة الحزب في الحرب السورية؛ مشاركة حوّلت المقاومة الإسلامية في لبنان، من فصيل من فصائل المقاومة ـــ هو بينها الأكبر والأقدر والأكثر إخلاصاً ـــ إلى كونه فاعلاً إقليمياً رئيسياً ورقماً دولياً معترَفاً به؛ قوةً ثورية لطيف واسع من القوميين واليساريين والوطنيين، والعدوَّ الأول للسعودية وأنظمة الخليج والجماعات التكفيرية وحلفائها في الغرب.
بينما «تعلمَن» حزب الله ـــ شاء أم أبى ـــ في معركة سوريا، سقط الإسلام السياسي كله في الأوحال السورية؛ فلم يعد ــــ وليس هناك في الواقع الفعلي ــــ فارق بين «المتنورين» الإسلاميين و«الإخوان» و«النصرة» و«داعش»: صورة انتحاريي المدارس وآكلي قلوب البشر وقاطعي الرؤوس، تلوّثهم جميعاً. الآن، لم يعد هناك «شغل» للعشرات، بل المئات من «المتخصصين في الحركات الإسلامية» ممن كانوا يسيطرون على الشاشات وصفحات الصحف والندوات؛ فمن يملك الرغبة في أو الدافع للإصغاء إليهم، طالما كانوا جميعاً، من راشد الغنّوشي إلى إخوان مصر إلى إخوان الأردن إلى حماس إلى مثقّفي «الجزيرة»... الخ، مصطفّين في خندق الذبح الإسلاموي في سوريا. ومَن له عقل وقلب، ليتضامن ــــ مثلاً ــــ مع الإخوان المسلمين المصريين الذين يتعرضون للقمع؛ الشعور العام ــــ خارج صفوف الإسلاميين أنفسهم ــــ هو أن التصدي لهم هو ضرورة مدنية ووطنية وإنسانية؛ كل ذلك حصل لأنهم تورطوا في الحرب ضد الدولة السورية. قبلها كانوا في وضع الهيمنة المعنوية (بالمعنى الغرامشيّ) على المجتمعات العربية ــــ حتى في صفوف العلمانيين والمسيحيين ــــ ولكنهم خسروا، اليوم، حتى قسماً من جماهيرهم، بينما أصاب الخَوَر قسماً آخر، وتغلغلت الميول الانتحارية في قلوب القسم الأخير. وكل ذلك حصل بسبب سوريا.
الربيع العربي نفسه ــــ بطبعته القَطرية الإخوانية العثمانية التركية ــــ كان يمكن أن يمرّ لو أنه تخطى سوريا؛ يكفي أن نعود بالذاكرة إلى ربيع 2011 وسنرى أن ما يشبه الاجماع كان قد حصل على «الثورات» العربية، ولو بقيادة «الإخوان» وقناة «الجزيرة»، ولو بالتفاهم مع الأميركيين؛ ما حدث أن الموجة انكسرت، تحديداً، في سوريا.
ما الأمر؟ ما الذي يجعل سوريا هي الحكاية كلها... وسواها تفاصيل؟ هل غابت فلسطين فعلا عن وعي الوطنيين العرب أم أن هذا الوعي يرى، عن حق، أن القضية الفلسطينية موجودة لأن الدولة الوطنية السورية موجودة وفاعلة، وبغياب الثانية تغيب الأولى، وأن فلسطين ولبنان والأردن هي شُقفٌ من سوريا؟ هل ملف الإرهاب التكفيري ثانوي أم أن العرب الواعين توصلوا إلى أن مرحلة معرفته والحوار حوله انتهت، وينبغي خوض المعركة الفاصلة ضده. وهو ما يفعله الجيش العربي السوري؟ هل العراق خارج الوجدان العربي أم أن هذا الوجدان يرى أن حل الأزمة العراقية يبدأ من سوريا؟ هل المقاومة في المرتبة الثانية أم إنه إدراكها وإدراكنا أنه لا مقاومة من دون سوريا؟ هل الملف النووي الإيراني هامشيٌ أم أن ما يشدنا للاهتمام به هو الدعم الإيراني لسوريا؟ هل مصر لا تشغلنا حقاً أم أنه لن تكون مصر أم الدنيا إلا بسوريا؟
خسر الشعب السوري في العدوان الذي يستهدفه منذ ثلاث سنوات الكثير من الشهداء والجرحى والمشردين، خسر البنى التحتية والمصانع والمساكن والأوابد الحضارية، إنما كل ذلك الثمن الباهظ يهون، إذا أدرك السوريون، معنى البلد وحضوره، الخشن والناعم، وامكاناته، ومركزيته المشرقية والعربية والإقليمية والدولية. وكلها عناصر لازمة للوعي التاريخي بالنهضة الآتية؛ تحيا سوريا.