حين كنا صغاراً، كنا نلعب في حارات المخيم وأزقتها التي أذكر أنها كانت واسعة نوعا ما ولم تعرف الرصف يوماً. كانت مجرد زواريب تملؤها الاتربة، لكنها كانت تجمعنا على الطيبة والمحبة والتراحم. وحيث ان عدد سكان المخيم يومها كان قليلا، وان طلب رخصة لاعمار منزل كان يستوجب دفع الكثير من المال، فقد كان اهل المخيم يكتفون بما لديهم من بيوت اغلب اسقفها من الزينكو، وجدرانها من الحجر الرملي المطلي بالطين الاصفر الذي كانت النسوة يأتين به من منطقة قريبة من المخيم تسمى «المحمرة». كانت النسوة تطلين به تلك الحجاره الصخرية التي كان الرجال يحملونها من مقالع قريبة. اما الشتاء؟
فقد كان يشعرنا، اطفالا وكبارا في السن، بالدفء، رغم البرد القارس الذي كان يجتاح عظامنا الرقيقة، حيث لا وجود سوى لبعض البطانيات التي كانت توزعها علينا وكالة الغوث. كنا ننتظر الشتوة الاولى لنشم عبق رائحة التربة، وكنا ننطلق مسرعين في حوارينا، نرفع اكفنا للسماء، نتلقى حبات المطر بوجوهنا، ونبلل ثيابنا. كان طقسا من طقوسنا نردد خلاله اغنية كنا نحفظها ونتوارثها جيلا عن جيل «شتي شتي يا دنيا/ على حدود سوريا/ سوريا جابت صبي، سمتو عبد النبي/ حطتو بالطنجرة/ صار اسمو مجدره». نرددها ونحن ننطلق في شوارعنا الموحلة ويعلو صراخنا بها، نلعب ونركض ونضحك ونعود للبيت بثياب مبللة تماما بالمياه والتراب، تقابلنا امهاتنا بالصراخ وبعض الأكف على القفا زجرا ونهرا لكي لا نعود لمثل ذلك. الا ان فرح الطفولة وشقاوتها ينسينا، فنعاود الكرة مرات ومرات، نمتشق بايدينا لفائف الزعتر او ما تيسر من رغيف وحبة بندورة او خيارة! وعند المساء نلتف جميعنا حول منقل الفحم وسراج من فتيل وكاز و«بابور» يهدر فوقه وعاء ماء فيه بعض الفستق لزوم السهرة العامرة. دقائق قليلة وتمتلئ الغرفة المتواضعة بالضيوف من اهل الحارة او الجيران الأبعد قليلا، ليبدأ الحديث عن فلسطين وعبد الناصر وحكايا عنترة وابو زيد الهلالي. وعلى هذا المنوال كنا كل يوم ، حيث لا تلفاز حينذاك ولا شيء يعكر سهراتنا وجمعتنا. كان ليل الشتاء طويلا وحكايا الختايرة وسمرهم لا ينتهي. كبرنا ليكبر همنا. كبرنا، لكن هذا الطفل في قلوبنا لم يكبر. واصبحنا في زمن نترحم فيه على ماض جميل برغم عذابه وفقره، زمن عاد بنا الى زمن الطرقات الرملية الموحله، ورغم تقدم الزمن، الا ان الزفت لم يلامس شوارعنا المليئة بالحفر والاتربة، والتي يقع فيها اطفالنا وهم ذاهبون لينهلوا من موائد العلم. عدنا الى المخيم، ومضى على عودتنا ما يقارب الست سنوات، وما زالت طرقاتنا بين سندان الانروا ومطرقة الدولة التي لا تسمح بتعبيد بعض الطرق بحجة وجود بقايا سكة الحديد وخط التابلاين. وعلى الرغم من كل المناشدات والمراسلات، بات اطفالنا يحسبون الف حساب لشتاء يغرق شوارعنا وطرقاتنا وحتى اماكن سكننا المؤقتة.
غاب الفرح الشتوي وغابت معها «شتي شتي يا دنيا/على حدود سورية» اصبحت مجرد تفاصيل ماضي اغرقها طوفان النسيان.