مع التأكيد على التأسيس القائل بأن أي تسوية سياسية قائمة على التنازلات المتبادلة، هي انعكاس لمعادلات القوة والمصالح، وبالتالي لا تعني بالضرورة غلبة لقوة على اخرى، الا أن ما جرى في حالة اتفاق جنيف النووي بين ايران والدول الست الكبرى، وعلى نفس قاعدة التوازن والمصالح، يشكّل انجازاً يصل الى حدود الانتصار، للجانب الايراني في مواجهة المعسكر الغربي المقابل، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
فالتوازنات والمصالح، لم تجد نفسها بنفسها فجأة، ثم تحققت هذه النتيجة تلقائياً بين الجانبين، وإنما بعدما استنفد الأميركي ومعه الغربي والاسرائيلي، الكثير من الضغوط الاقتصادية والأمنية، اضافة الى التهويل بالحشود والضربات العسكرية، وبعدما بلغت ايران ما بلغته على مستوى التطور النووي الذي اوصلها الى دولة «حافة نووية». مع وجود فوارق أساسية، ذاتية وموضوعية، يشبه نجاح الجمهورية الإسلامية في ايران في جر الغرب الى توقيع الاتفاق، نجاح حزب الله في فرض معادلة ردع مضادة مع الكيان الاسرائيلي، ناتج من تطور قدراته العسكرية والصاروخية، وتحديداً بعد استنفاد تل أبيب كافة خياراتها ورهاناتها على سحق حزب الله او اضعافه او اخضاعه خلال السنوات الماضية.
لو كان الحديث عن اتفاق بين الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة، لأمكن الاكتفاء بقاعدة توازن القوة وتقاطع المصالح والظروف المؤاتية. الا ان الجانبين في اتفاق جنيف، ايران والولايات المتحدة تحديداً، هما خصمان متقابلان مع تفوق احدهما على الآخر من النواحي العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، مع محاولات وجهود غربية طوال ثلاثة عقود بهدف اسقاط النظام الايراني او احتوائه او اخضاعه. الى ان اضطر الغرب اخيراً، نتيجة فرض طهران توازن القوة والمصالح، على الاندفاع نحو تفاهم ينطوي على واجبات وقيود متبادلة، ضمن سياق حركة صراع متواصلة بينهما.
وبالتالي فإن قراءة اتفاق جنيف لا يمكن ان تقتصر فقط على ما قام به الجانبان من تنازلات نص عليها الاتفاق نفسه، من دون ملاحظة التنازل الكبير الذي اضطر اليه الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، بالتسليم القسري بوجود وحضور نظام الجمهورية الاسلامية، بعد ماض طويل من محاولات اسقاطه، واحتوائه واضعافه.
لجهة ما قدمته ايران من تنازلات، وتحديداً ما يتعلق بتخصيب اليورانيوم لدرجة 20 في المئة، في مقابل تنازلات غربية وأميركية، يُذكّر بمشهد فكاهي لأحد الممثلين الكوميديين الإيرانيين، تدور احداثه داخل احد بازارات مدينة أصفهان، حيث يدخل سائح غربي احد المحال لشراء سجادة معروضة في الواجهة أعجبت زوجته. لكن التاجر لم يكن يود بيعها، لذا، عرض عليه مجموعة متنوعة من البسط الأخرى، مثنياً على كل واحدة منها، فيما وجه انتقادات شديدة للاخرى التي تروق للسائح. وينتهي الحال بالسائح بشراء السجادة التي يريد التاجر تسويقها وبيعها، ويحتفظ التاجر بالسجادة التي لا يريد بيعها.. ثم يتحول هم السائح الى كيفية تبرير شراء السجادة والترويج لها امام زوجته.
هذا ما حصل بين ايران والسداسية الدولية، وبشكل أكثر تحديداً مع الرباعية الغربية، عندما وافقت طهران على تعليق تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 في المئة، وبالأخص ان ايران تجاوزت الحاجة الى هذه النسبة في كل متطلباتها النووية. وبعبارة اخرى، اعطت ايران ما لم تكن تريده، لأنها لا تحتاج إليه، واخذت ما تحتاج اليه بالفعل، وهو استمرار تخصيب اليورانيوم على اراضيها. ما كان يهم ايران هو التخصيب، تحديداً التخصيب، وهذا ما توصلت اليه، وهو ما كانت تعلنه طوال السنوات الماضية، وما رسمت حوله القيادة العليا في طهران خطاً احمر لا يمكن التنازل عنه.
وللتذكير ايضاً، فإن الأزمة بين ايران والغرب، على خلفية برنامجها النووي، بدأت قبل عشر سنوات، وقد تخللها فرض عقوبات اقتصادية قاسية، وحشود عسكرية، وتهديدات بالحرب، بسبب إقدام ايران على تخصيب اليورانيوم بدرجة أقل من خمسة في المئة. اي ان المشكلة لم تكن على درجة التخصيب، وإنما على مبدأ التخصيب نفسه. وهنا يكمن النجاح الايراني في اتفاق جنيف.
والاتفاق بين ايران والدول الست، في كل الأحوال، ورغم انه اتفاق تمحور حول القضية النووية، الا انه سحب اعترافاً بالموقع الندي لإيران بمعنى الموقع المتكافئ سياسياً، واقراراً بوزنها الاقليمي والدولي أيضاً، وعلى ذلك قد يؤسس مستقبل ومعادلات وتحالفات وموازين القوى في المنطقة. وبذلك تكون التركيبة الدولية «5+1» التي دخلت الى قاعة المفاوضات في مقابل ايران، خرجت منها وفق تركيبة «6+1».