اللاذقية | تبدأ الرحلة من دوار الأزهري في اللاذقية. وقفة للتمعّن في المفارق الأربعة التي يقود كلّ منها إلى نكبة من نكبات المدينة. الجنوب هو وجهة الزيارة ومقصدها. شمالاً، قرب نهاية أوتوستراد كسب الدولي، يرابط مسلحو «جبهة النصرة» و«الدولة الإسلامية في العراق والشام». ويمكن الوصول، غرباً، إلى المدينة الرياضية والشاطئ الأزرق حيث مآسي النازحين من حلب والداخل السوري لا تنتهي. وإلى الشرق، تقع الأحياء الموالية بعوائل شهدائها وفقرائها الذين لا يلوون على أمر، ولا يعرفون من يلعنون بسبب سوء أحوالهم. التحرك جنوباً من الدوار يفضي إلى وسط المدينة، حيث سوق التجار الذي استعاد شيئاً من الحركة، لكن الواضح أن عصر ازدهاره قد ولّى.قبل الخروج من المدينة نحو جبلة، جنوباً، تلفت النظر، على دوار الأزهري، لافتة خشبية كُتِب عليها حديثاً: «دوار اتحاد شبيبة الثورة»، وهو اسم إحدى المنظمات الشبابية التابعة لحزب البعث. يبتسم زياد، وهو شقيقٌ لشهيد قضى في العتيبة في ريف دمشق، ويقول: «لا يزالون يعيشون في الماضي، وكأننا لم نقدّم كل هؤلاء الشهداء. لا حياة لمن تنادي». يرافق زياد الجولة الكئيبة إلى مدينته، جبلة، ويضيف على المشاهدات ما لديه من معلومات، ويزيد بقوله: «لطالما انتظرنا أن تُسمّى مدرسة أو شارع باسم شقيقي أو أحد رفاقه، إنما لا يزال البعث طريقنا»!

عاصمة الشهداء

جبلة هي الخزّان الرئيس للجيش السوري، يمدّه بآلاف الفقراء من الجنود والضباط الذين يتطوّعون بسبب قلة فرص العمل في الساحل. على شاطئ المدينة الطويل، عشرات من باعة القهوة والمتريضين. تبدو الحياة هنا كأنها تجاهد لتكون أقرب ما يكون الى الطبيعية. لا ملامح حرب في المدينة التي شهدت ساحاتها تظاهرات سلمية غلب عليها أصحاب اللحى مع بداية الحراك. جنوب المدينة يقع حي العزي الذي يتحاشى الموالون المرور به. يمكن التوقف عند آخر حاجز قرب المدرسة الشرعية. يشير زياد في اتجاه الحي: «يشتبه في وجود الكثير من الخلايا النائمة في الحي. كثيرون من شبان الحي يقاتلون الآن في الريف الشمالي من اللاذقية».
مطلع نيسان 2011، خرجت في وسط مدينة جبلة أول تظاهرة في الساحل السوري ترفع شعارات ضد المقاومة اللبنانية المتمثلة في حزب الله. مذذاك بدأت مخاوف أهل الريف تتزايد، ووصلت حد مقاطعة أسواق المدينة نهائياً. المقاطعة الاقتصادية في جبلة شهدت أسوأ وجوهها، واختلفت عمّا هي عليه وسط مدينة اللاذقية التي حاول تجارها فتح فروع لمحالّهم التجارية في أحياء موالية، كحي الزراعة والرمل الشمالي، أمرٌ عجز عنه تجار جبلة وسط سخط أهالي الريف المتزايد. نبيل، تاجر من إحدى عائلات جبلة المتهمة بتمويل التظاهرات، أنهى أعماله وسافر إلى بيروت حيث يقيم أفراد من عائلته. يروي لـ«الأخبار» كيف حاول إنقاذ تجارته التي كانت تعتمد على القوة الشرائية لأهالي الريف. بعد توقف التظاهرات في المدينة علّق صورة للرئيس بشار الأسد على باب معرضه التجاري، من دون أن يثمر ذلك، فبقيت أعماله متوقفة.
لدى أهل الريف موقف حاد ضد تجار المدينة. يتهمونهم بتمويل التظاهرات، والمسلحين لاحقاً. شذى، معلّمة من ريف جبلة، تقول: «لا يمكن أن نساهم في تغذية رزق تاجر باع بلاده ليشتري سلاحاً يقاتل به جيش وطنه». المقاطعة، بحسب شذى، خفّت حدتها قليلاً، إلا أن «هُناك من لا ينسى لأن جرحه طري، وهؤلاء في الغالب عوائل الشهداء».
تباهي جبلة بين المدن السورية بأنها الأرض الأكثر عطاءً، فهي الأولى بعدد شهدائها الذين يبلغون، بحسب تعداد الصفحات الموالية للنظام والمتهمة بالتهويل، 4500 شهيد. رقم مهول بالنسبة إلى المدينة الصغيرة الواقعة على البحر المتوسط، والتي تبعد عن اللاذقية 25 كلم جنوباً، خصوصاً أن عدد سكانها لا يزيد على ربع مليون نسمة.
ورغم حوادث الخطف والتشليح على بعض الطرق التي قد تسمع تحذيرات قبل اجتيازها، إلا أن جولة في قرى قدّمت هذا العدد الهائل من الشهداء، لا تقاوَم. في الطريق إلى بيت ياشوط مناظر طبيعية بالغة الجمال، والأسى أيضاً. صور الشهداء في كل مكان وعلى كل جدار وجذع كل شجرة. القرى الصغيرة المتجاورة قدّمت خيرة شبابها طعماً للحرب. حيدر، مزارع من إحدى قرى بيت ياشوط، يغالب من أجل البقاء في ظل الأوضاع المادية المتردية. يقول: «كان يجب أن نقوم بواجبنا تجاه البلاد. ما كان يمكن إخوتي أن يرفضوا الانضمام إلى الجيش عندما ناداهم الواجب الوطني. فلو تُرك العدوّ يتمدد في البلاد لوصل إلى بيت ياشوط سريعاً». لحيدر شقيقان شهيدان، وآخر جنديّ يخدم في درعا. يتذمر الرجل من ارتفاع الأسعار وتدهور الوضع الاقتصادي في ظل خسارة الأرض لشابين منتجين، أحدهما مهندس. لكنه يستدرك: «في النهاية نادت البلاد رجالها، وقد ضمّت ابنَيها». فلسفة حُب الوطن وشعاراته أصبحت جملاً جاهزة يكررها أهالي المنطقة. تختلف الحال بين الفقير والغني حتى حين يتعلق الأمر بالأرض والشهادة. ففي قرية بعيدة قليلاً عن بيت ياشوط، يمكن تأمل البناء العمراني البديع لقبر أحد الضباط الشهداء من أبناء القرية، الواقع في حديقة قصر شقيقه، وهو ضابط معروف. موكب أحد الشهداء في جبلة يلفت الأنظار. سيارة الإسعاف تحمل الجثمان المزين بالورود بما يليق بالشهيد. يقول زياد: «يجب ألا ترفع صور أي شخص في جنازات الشهداء. هذا يُضفي إحساساً مقيتاً بأن شهداءنا يموتون من أجل شخص». ويتابع بأسى: «كيف يمكن أن تشرحي ذلك لشعبنا؟ كيف يمكن أن تقولي إن هذا الشهيد ارتقى لأجل سوريا فقط؟ وكيف يفهم ذلك بتأنٍّ ووعي من دون تخوينك؟».

بكرامة... من دون تعويضات

شوارع عدة محايدة خالية من أي معلم يدل على آثار الحرب، هذا ما سيصادفك لدى دخول قرية البودي الصغيرة الواقعة على السفوح الوسطى الغربية لجبال اللاذقية، والتي تتبع إدارياً لناحية عين شقاق، وتبعد عن جبلة 18 كلم. قد يباغتك الدخان فجأة. ثمّة من يحرق الأعشاب بين الأشجار، ما يثير هواجس من زار المناطق السورية التي شهدت الحرب، فاحترقت مزارعها، خلال عمليات منع التسلل. المناطق التي لم تشهد الحرب تعاني، بدورها، من مشاهد قطع الأشجار للتجارة بطرق متوحشة، حيث يخسر الساحل السوري غطاءه الأخضر تدريجاً. حرق الأعشاب في قرية هادئة كالبودي، لا شك، له أسبابٌ أخرى، فالتسلل ليلاً ليس حكراً على أحد، وعمليات الخطف خارج القرية بدأت تثير رعب السكان. ارتفاع القرية المتدرج عن سطح البحر يولّد مشاهد طبيعية جميلة. الزراعة البعلية هي الأكثر انتشاراً، إضافة إلى أشجار الزيتون وشتول التبغ. على مدخل القرية تكمن المفاجأة المهيبة. أعدادٌ لا حصر لها من صور الشهداء. شبان في مقتبل العمر طحنتهم رحى الحرب. «غادروا الضيعة وما رجعوا إلا محملين»، تقول دلال، إحدى نساء القرية. بعضهم «ما رجعوا أصلاً»، وبعضهم «رجعوا بلا إيدين أو رجلين أو مشوّهين». تتابع المرأة الستينية قولها: «كنت موت من البكي أول شي لما يجي شهيد. هلا شو بعمل؟ بضل عم قضيها بكي؟ تعوّدنا». 70 شهيداً عادت جثامين معظمهم إلى القرية التي لا يزيد عدد سكانها على 12 ألف نسمة، إضافة إلى ما يقارب 20 مصاباً بعجز دائم. «كانت بالأول الدولة تعوّض فوراً على المصابين وعوايل الشهدا. هلا ما عم تلحق الدولة الله يعينها، وكل العالم ناطرة دورها بالتعويض»، تقول دلال. تروي حكاية إحدى الأمهات في بيت ياشوط التي زارتها زوجة الرئيس السوري في منزلها، باعتبارها «أم الشهداء» بعدما فقدت أربعة من أبنائها كلّ في منطقة سوريّة مختلفة. لدى الناس هُنا اعتداد كبير بالكرامة. ينتقدون الحكومة وأخطاءها. بل قد يهاجمون عائلات لطالما خشي السوريون من التلفّظ باسمها. يتباهى بعض أبناء عين شقاق بزيارة السيدة الأسد لأم الشهداء في بيت ياشوط المجاورة بدل ذهاب المرأة إلى دمشق.
ويتباهون أيضاً بطرد والد أحد الشهداء لأفراد إحدى العائلات الشهيرة ببطشها في الساحل كله، بسبب تسلّطهم وإهاناتهم الناس خلال تقديمهم واجب العزاء. يروي أحد الفلّاحين هذه الحكاية بفخر ومزاجٍ عالٍ. قدمه منغرسة في تراب الأرض التي يزرعها خضراً تعينه على مصاريف الشتاء. يردد قول والد الشهيد لأحد مسؤولي المدينة خلال مجلس العزاء: «أنا والد الشهيد. ومقامي مكرّم من الله. أما أنتو الملاهي بتعرفكم وبتعرف مقاماتكم». لا وقت لسماع المزيد من الحكايات مع اقتراب غياب الشمس. فالعودة إلى اللاذقية أصبحت أمراً ملحّاً، وهو ما يصرّ عليه حتى مضيفوك الكرماء في هذه الظروف السوداء من عمر البلاد. المغادرة تشابه دخول المنطقة، مع وحشة أكبر يضفيها لون المغيب. تقف لوداعك أشجار الزيتون والجوز والتين تكلّل القرى المتناثرة التي ينتشر فلّاحوها بأمان متوحّدين مع ترابها.