أحمد عزامأذكر عندما كنت صغيراً، وكنت أيامها أعيشُ في حي جوبر الدمشقي، كيف أصبح بيتنا بوصلة تدل الضالين إلى طريقهم! فكل من يريد أن يدل شخصاً على معلم قريب من بيتنا كان يقول: بعد بيت الفلسطينية بكذا، أو قبل بيت الفلسطينية بكذا، أو مقابل بيت الفلسطينية... حتى إنه عندما كان يتوفى أحد من الفلسطينيين الذين يعيشون في جوبر، كان المؤذن، بعد أن يعلن اسم المتوفى، يرفق جملته بكلمة «الفلسطيني».
هذه العلامة الفارقة سوف تَزرع في داخلك في ما بعد مزيجاً من التميز والاغتراب، فيكون اندماجك مع مجموع السكان ناتجاً من محاولاتك للتفوق، حتى وإن كان على مستوى العلاقات الشخصية. وقد تكون عقدة نفسية «تصعيدية»، لكنها تحقق لك التوازن في إشاحة النظر عن كونك لاجئاً في منطقة غريبة. فيتعامل الناس معك من حيث إمكانياتك وموقعك لا من حيث هويتك، خصوصاً في المناطق التي تحوي أغلبية بسيطة الحال ذات مستوى تعليمي منخفض، ولديها حساسية «فطرية» تجاه الغريب، حتى لو كان هذا «الغريب» سورياً من حمص مثلاً.

قبل أن أزور المخيم في السابعة من العمر، كان له عليّ تأثير خارجي. وكنت أعتقد أن جميع من يعيشون فيه يصبّون في خانة «الباد بويز»، أو أصحاب المشاكل. وهذا نتيجة تأثير المنطقة التي عشت فيها، حيث أذكر عندما تعرّفت إلى أحد الأطفال في جوبر وسألني: «إنت من وين؟» أجبته «أنا فلسطيني»، فتابع سائلاً «يعني من المخيم؟». لا أعلم ما الذي دفعني إلى أن أكذب وأقول له إنني عشتُ هناك فترة ثم انتقلت إلى هنا في ما بعد. وبعد هذا اليوم أصبح هذا الفتى يفتعل المشاكل في الحي مدعوماً بفكرة تُرهب الآخرين أن صديقه فلسطيني من المخيم! فيتحاشاه الجميع! أعجبتني الفكرة في البداية. فجميلٌ أن توسَم منذ الطفولة بأنك شجاع ويمكن أن تقاتل من دون خوف، مع أنه لم يسبق لي أن دخلتُ في عراك مع أحد. ولذلك لم تكن النتائج إيجابية عندما تجرأ أحدهم على صديقي المذكور وضربه، ثم قال له «أنا بكسر راسك وراس أكبر فلسطيني»، والذي دفع بصديقي إلى أن يأتي إلي ويخبرني بالحادثة وهو على يقين بأنني سأذهب وأوسع الصبي ضرباً! وفجأة وُضعت أمام خيار إنقاذ شرف فلسطين من هذه الإهانة!.. نعم أنا صاحب قضية الآن! لذلك ذهبت بكامل ما أملك من جرأة لأواجه صبياً أطول وأضخم مني بكثير! الأمر الذي جعلني أسقط أمامه في دقيقة وبالضربة القاضية! هكذا، عدت وأنا أجرجر أذيال الخيبة، شاعراً أنني خنت وطني! وصرتُ لا أطيق النظر في عيون أهلي، وأصبحت أذهب وأعود إلى البيت بسرعة بعدما تناقل جميع الأطفال قصة الفلسطيني الذي مُسحت به الأرض.
ومنذ ذلك الوقت أصبحت على يقين من أنه إن أردت أن تكون فلسطينياً عليك أن تعمل بأكثر من طاقتك وأن تحترس أكثر، فالموضوع لا يخصك وحدك عندما تكون لاجئاً.
أن تعيش خارج المخيمات يعني أن تحافظ بقدر ما تستطيع على عاداتك وتقاليدك من دون أن يؤثر ذلك على اندماجك في المكان الذي تعيش فيه، خاصةً إذا كان هذا المحيط مُحافظاً، وهنا علامةٌ فارقة أخرى: حيث تصبح الأشياء التي تتشابه فيها بعض المجتمعات كأنها سمةٌ تخصك وحدك. وكثيراً ما تسمع كلاماً يتراوح بين القبيح والجيد، مثل «هدول الفلسطينية فري، هدول الفلسطينية لا بحللوا ولا بحرموا، هدول الفلسطينية روح قلبهون العلم». وهنا تظهر قدرة الفلسطيني الذي استطاع أن يكون مؤثراً إيجابياً لا متأثراً سلبياً.
أذكر أن الحي الذي كنت أعيش فيه قد ارتفع مستوى تعليمه عن الأحياء الأخرى. وأنا لا أقصد المبالغة أو الرياء في هذا الموضوع أبداً، وخاصةً عندما تتحول عائلتك إلى مضربِ مثلٍ في الحي، ويصبح طموح الأهالي أن يصبح أبناؤهم مثل أبناء هذه العائلة الفلسطينية. هذا بدوره كان مُحفّزاً شخصياً لكي أجتهد أكثر، لأن في ذلك شهادة تسِمُ وطناً بكامله، فيحمل الفلسطيني هذه العقيدة قلباً وقالباً أينما حمل خيمته وذهب.
أول مرة دخلت فيها إلى مخيم «اليرموك» اكتشفت أن لدي «كامبوفوبيا»، أي رهاب المخيم، وخصوصاً عندما رأيتُ الأطفال وهم يحولون ساحة المخيم «دوار البطيخة» إلى مسبح يسبح فيه أكثر من مئة طفل! حينها قال لي أبي: «هؤلاء هم أهلنا». لكن شعوري بالاغتراب كان حاضراً بقوة! فأنا لا أشبه هؤلاء الأطفال الذين يخترعون أدوات لعبهم بكل هذه الحرية. وبعد شهرين من إقامتي عند بيت خالتي في مخيم اليرموك، تعزز هذا الشعور لدَي، خصوصاً حين أصبح الجميع يطلق عليّ لقب «الشامي»، لأن لهجتي الشامية كانت واضحة، ما أعادني إلى فكرة العلامة الفارقة، ولكن هذه المرة بين أولاد بلدي.
أن تكون لاجئاً يعيش خارج المخيمات يعني أن تدرك أنك أصبحت من هنا وهناك، وأنك لستَ من هنا ولستَ من هناك في آن واحد، والذي سيدفعك إلى أن تحاول ما استطعت لتثبت انتماءك للطرفين بالمستوى ذاته.
وهذا ما تأكد لي، وخصوصاً بعد الأحداث التي عصفت بسوريا في بداية عام 2011، ولنا في تأثير هذه الأزمة في اللاجئين خارج المخيمات حديث آخر.



أكد مدير عمليات وكالة إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في سوريا، مايكل كنزلي، خلال اجتماعات الدول المانحة واللجنة الاستشارية لـ الوكالة 18/11، التي عقدت في منطقة البحر الميت، في الأردن، أن نحو 50% من اللاجئين الفلسطينيين بسوريا باتوا في عداد المهجرين داخل وخارج سوريا، في حين أكد المفوض العام للأونروا فيلبو غراندي، إن خمسين ألفا من اللاجئين الفلسطينيين بسوريا لجؤوا إلى لبنان التي يوجد بها أكثر من ثلاثمائة ألف لاجئ فلسطيني. وأضاف غراندي أن ستة آلاف لاجيء فلسطيني لجؤوا إلى مصر، ولا تستطيع الأونروا تقديم أي مساعدات لهم لعدم وجود أي تمثيل لها هناك.