تقولُ الملحمة الشهيرة إنّه «كان على جلجامش أن يسهر ستّة أيام وستّ ليالٍ ليكونَ جديراً بالحصول على عشبة الخلود»، لكنّ النوم داهمَه ففشل في تحقيق غايته. اليوم، يستقبل السوريّون عاماً سادساً من الويلات، سبقته أعوامٌ خمسة مليئة بالموت بمختلف أشكاله. يُنقل عن القديس أوغسطينوس أنّ «العدد ستّة هو العدد الأكثر كمالاً من بين كل الأعداد الكاملة»، فهل تستوفي الحربُ «كمالَها» معه؟ الرعب الذي اختبرته البلاد، حوّل الأمل إلى مقامرة، لكنّه (حتماً) يبقى حاضراً في نفوس الكثيرين، وإن راوغوه. لا أحد من السوريين اليوم يحلم بالخلود، الحلم أبسط بكثير وأكثر مشروعيّة: أن تنتهي الحرب. لكنّ انتهاء الحرب ليس أمراً يسيراً، والأصحّ أن أقصى ما يمكن تمنّيه هو تغيّر مسارها، ودخولها مرحلة جديدةً مختلفة. في واقع الأمر، يبدو العام السادس مرشّحاً ليكون عام «التحولات الكبرى». وكما تبدو البلاد أقرب من أيّ وقت مضى إلى احتمالات إبرام تسويات وصفقات، تقف أيضاً وأكثر من أي وقت مضى على شفيرِ هاوية التقسيم، وضياع الهوية. العام المنصرمُ من الحرب انتهى إلى مشهد مغايرٍ كليّاً لما بدأه.
يستقبل السوريون عاماً جديداً من الويلات بعد أعوام من الموت
فمع نهاية شهر آذار من العام الماضي، كان مشهدُ السيطرة الميدانية يعكسُ تراجعاً كبيراً للجيش السوري على غيرِ جبهة. قبل مطلع الشهر بأيّام قليلة، باءَت محاولة جديدة لفك حصار نبّل والزهراء، والسعي إلى تطويق مدينة حلب بالفشل. بينما كانت خُطط «فتح إدلب» تُنضَج على نارٍ هادئة في المطبخ التركي، وقبل انصرام آذار رفرفت راية «تنظيم القاعدة» فوق مبنى المُحافظة. التراجع لم يتوقّف عند سقوط المدينة، بل استمرّ حتى خروج كامل المحافظة عن سيطرة الدولة السورية (ما عدا كفريا والفوعة)، مع فقدانها لاحقاً مناطق هامّة في ريف حماة وعلى وجه الخصوص في سهل الغاب. تطوّرات إدلب انعكست هواجسَ لدى سكان مناطق سيطرة الجيش في الساحل، واختبرت الروح المعنويّة للمؤيدين مرحلةً غيرَ مسبوقة من التداعي. الأمر ذاته تكرّر في حلب المتاخمة لإدلب، وسط مخاوف من تكرار سيناريو «الفتح»، ولا سيّما مع تقدّم تنظيم «داعش» إلى تخوم المدينة الصناعية ليصبح السؤال لدى كثير من المتابعين: من يقتحم المدينة أوّلاً، «جيش الفتح» أم «داعش»؟ الأخير كان مع منتصف آذار الماضي قد بدأ بـ«قضم» مناطق استراتيجيّة على طريق السلميّة ــ حلب، وسيطر في معركة خاطفة على مناطق في محيط بلدتي الشيخ هلال وحنيطة (ريف حماة الشرقي). وترافق ذلك مع بدء التنظيم تحرّكات جديّة على الأرض لبسط سيطرته على مناطق في وسط سوريا، وصولاً إلى القلمون، ليفلح قبل انتهاء أيّار في السيطرة على تدمر. في الجنوب، خسر الجيش مدينة بصرى الشام، ومعبر نصيب الحدودي مع الأردن، وبدأت مرحلة تضييق الخناق على محافظة السويداء مع مساعٍ لتفجيرها من الداخل. في أيار، تبدّلت الحال قليلاً، مع استيعاب الصدمات المتتالية، لكن من دون توافر القدرة على إعادة عقارب الساعة إلى الوراء. وعاودَت الحرب لعبة الكرّ والفرّ حتى شهر أيلول، وفيه كانت العاصمة على موعدٍ مع أشدّ التهديدات جديّة منذ تفجير خليّة الأزمة الشهير، حيث نجحَ مسلّحو «جيش الإسلام» في الوصول إلى نقاطٍ لم يصلوها سابقاً في جبل قاسيون.

الروس يقلبون المشهد

في 30 أيلول، دخلت القوات الروسية المشهد، لتنجحَ بعد فترة في قلب الموازين. وتحت غطائها الجويّ، أفلح الجيش السوري وحلفاؤه في الانتقال من مرحلة الدفاع إلى مرحلة الهجوم على مختلف الجبهات. وبالتدريج، استعيدت معظم المناطق الخارجة عن السيطرة في ريف اللاذقية الشمالي، كما في أرياف حلب الجنوبية والشمالية والشرقية. واستعاد التوازن في الغاب، وريف حماة، ليُطلّ على إدلب (المعقل الأساسي لـ«جيش الفتح») عبر منافذَ عدّة. في الجنوب، استعاد التوازن في محافظة درعا، وفي محيط دمشق أفلحَت الدولة السورية في فرض تسوياتٍ عدّة على مقاسها. كذلك؛ فتح الجيش أبواباً في اتجاه معاقل «داعش» في الرقة، ويستمرّ في الاقتراب من مدينة تدمر التاريخية التي تبدو مرشحةً لتشهدَ «إنجازاً» عسكرياً قريباً. بين المرحلتين، استمرت دير الزور تحت حصار «داعش»، وأفلحَت قوّات الجيش هناك في التصدي لهجماتٍ شنّها التنظيم بشكلٍ شبه مستمر. وبقيت محافظة إدلب خارج السيطرة، شأنها شأن الرقة التي لم يعُد النفوذ فيها حكراً على «داعش» بعدما نازعَتها «وحدات حماية الشعب» ولاحقاً «قَسَد» على ريفها الشمالي.

«عام الأكراد»

على امتداد تلك الشهور، كان المشهد مختلفاً من منظور «وحدات حماية الشعب» الكردية. الخروج من معركة عين العرب (كوباني) بانتصارٍ على بعبع «داعش» منحَ الأكراد امتيازات كثيرة، وعلى مختلف الصعد: إعلامية وسياسيّة وعسكريّة. ويُمكن القول إنّ سلسلة الهزائم المتتالية التي مُني بها «داعش» على يد «الوحدات»، بدءاً بهزيمة عين العرب، غيرُ مسبوقة في الساحة السوريّة. الأداء الميداني ترافقَ بأداء سياسي مماثل، أتاحَته الهيكليّة التي تربطُ «الوحدات» بالتكتلات السياسيّة الكردية. وهو أمرٌ لم يتوافر على امتداد السنوات لدى المعارضة السورية، التي بقيَ «سياسيّوها» في وادٍ، ومسلّحوها في وادٍ آخر. رويداً رويداً، اتّسعت رقعة سيطرة «الوحدات» على حساب «داعش». تشكيل «قوات سوريا الديموقراطية» في منتصف تشرين الأول جاء ليمنح «الوحدات» التي شكّلت عمودَه الفقري زخماً جديداً، ولا سيّما مع اعتمادها أسلوب «القيادة المشتركة» لجناحها السياسي. وحتى الآن، تنفرد «قسد» بكونها الجهة الوحيدة التي حاربَت بغطاء جوي مُتنوّع: روسي أحياناً، و«تحالفي» في أحيان أخرى. كما نسّقت أيضاً مع الجيش السوري في معارك عدّة.