هلا تيسير أبو بكرتنطلق من مطار دمشق إلى هناك حيث لا تعلم ما الذي قد يكون بانتظارك.
يصل الراحلون أو اللاجئون أو الهاربون أو النازحون، وكلها صفات صارت تنطبق على الفلسطينيين المشردين من مخيم اليرموك، إلى مطار دمشق باكراً، خوفاً من مفاجآت الطريق، أو ليخفضوا كلفة الانتقال بالسيارات المستأجرة، ليركبوا حافلة المطار، التي تنطلق من منطقة البرامكة الى مركز مدينة دمشق.

يخلو طريق المطار من كل شيء إلا من الخوف. أما الوصول باكراً إلى المطار، أي قبل موعد الطائرة بساعات، فسيجعلك مرغماً على سماع قصص أناس كثيرين مثلك، قرروا الفرار من هول الحرب الدائرة في أغلب مناطق سوريا.
ففي المطار ستكون الساعات حافلة، تقضيها من الصباح حتى يأتي موعد الطائرة. تجلس على الأرض قرب حقائبك في الموقف الآخر من هذه الرحلة خارج الموت. عائلات بأكملها راحلة بلا أمل، مهمتها الوحيدة إنقاذ أطفالها وإخراجهم من دائرة الموت الى حيث احتمالات الحياة.
لحظة صعود الطائرة تبدأ رائحة الموت بالابتعاد لتشتم في السماء رائحة الغربة العفنة. يجتاحك شعور الحيرة وأنت معلق في السماء. هل قرار الرحيل كان صائباً؟ لا يُترك لك مجال للراحة ولو دقيقة. تختلط الروائح عليك لتبحث بشهوة وأنت تطلّ على الشام على رائحة الياسمين... تترك أناك في دمشق وترحل متعباً.
كنت قد تعبت كثيراً من حقيبة السفر قبل الذهاب للاستقرار في دمشق. تركت كل ما بنيته من حب ودفء خلال أكثر من عشرين عاماً في البهجة _ هكدا تلقب عاصمة الجزائر _ ورحلت مع أهلي. كان لي كثير من الأحبة في دمشق، وكانت هناك عائلتي الكبيرة التي لم نعرفها إلا في زياراتنا الصيفية للشام. غير أن أجواء جلق كانت تسحرني. لكن لم يكن هناك شيء يشوقني أكثر من أن أعود بعد التعب إلى بيت يخصني لا أخاف على حيطانه من التثقيب لوضع الصور أو أخاف أن أعتاد الجيران قبل أن أغير مكان المنزل، كما كنا نفعل في الجزائر كوننا لا نستطيع التملك. حلمت بأن أعود إلى منزل غرفتي فيه أصبغها بالأصفر أو الأخضر أو بألوان الجنون. أسافر وأرحل وأعود إلى بيت أبي... كنت أحلم ببيت لي، لكن ليس بعد اليوم. هو ربما حال اللاجئ، سواء كان فلسطينياً والآن يضاف إليه السوري.
حلم العودة بعض الأحيان يصبح شكلاً من أشكال التقاليد العربية مثل أن تحلم الفتاة كما يطلب منها المجتمع بالزواج لتكون قد قدمت بصمتها في هده الحياة ويضيع العمر وقد تكون مثل الكثير اللواتي تزوجن ولم يضعن بصمة في حياتهنّ.
عزيزي اللاجئ الفلسطيني الجديد واللاجئ السوري الجديد، يبدو عليك التعب حتى الثمالة. خفّف عليك من الأحلام ألماً واجعل من خيمتك وطناً. لا وطن اليوم غيرك وطناً. ارسم خريطته بأناملك. لا طريق فيه سوى لقدميك. عبّد الطرق بخيوط الشمس وامش. ولا تحزن إن أنجبت طفلاً لاجئاً، فصدّقني سيجيد اللعبة أكثر منك.
عندما كنت أسافر من الجزائر إلى دمشق لقضاء عطلة الصيف كنت أبكي كثيراً، ما يضحك أصدقائي مستغربين: «كأنك لن تعودي» أبتسم وأقول «أنا سأعود، لكن لا شيء يعود كما كان. الوقت يأخد حقه من كل شيء ولو كان ضئيلاً». عند العودة أشعر بنفس الشعور.
الشآم ستعود أجمل مما كانت لأنها لم تشخ بعد، ومخيم اليرموك سيعود أجمل مما كان لأنه لم يمت بعد... لكن لا شيء سيعود كما كان. مهما صغرت فترة لجوئكم سوف تتغير ملامح أطفالكم، فحافظوا عليها بأن تتجمل بدلاً من أن تشيخ حزناً.
لاجئة أنا. هويتي شتات فلسطيني بطعمة عربية. بيتي حقيبة سفري. أهلي في كل مكان. يحملون كل الأسماء. يتألمون حيناً ويضحكون أحياناً.
أنا لا أعيد خط مأساتنا بحبري. أنا أخشى على عمركم من الأحلام، فبعض الحلم إثم.
أن يكون لك حق في العودة لا يعني أن تحلم به، بل أن تصنع ما منعتك الحرب من صنعه.
أخي اللاجئ الجديد، تستحق العيش ولا تصدق غير ذلك. أنت هارب إلى الحياة، وهل تحب الحياة أكثر من الهاربين إليها؟
عزيزي اللاجئ الجديد، لا تخف من الصفر ولا تخف من الصفحة البيضاء، ولا تخف من غرابة قلمك الجديد. أجد إمساكه فقط واكتب من الألم في صفحتك البيضاء شعراً... ولا تحزن على ما ضاع، فشقاء العمر لا يضيع إلى الأبد إلا مرة واحدة عندما تغفو الى الأبد.
وتأكد أنك لست غجرياً لا وطن له. أنت مجرد لاجئ حملت وطنك في قلبك ورحلت لتحمي أغلى ما لدى هذا الوطن... أنت فقط لاجئ «طازة» لا حدود له.