القاهرة | في تحول يحمل الكثير من المعاني، يعاود اتحاد نقابات عمال مصر صعوده إلى صدارة المشهد في مصر. ففي مبادرة غير متوقعة، قرر الاتحاد محاولة إعاقة صدور قانون الحريات النقابية. وتلت ذلك إعادة تشكيل مكتبه التنفيذي، مستبعداً من اعتبرهم مقربين من وزير القوى العاملة كمال أبو عيطة. ووصل الأمر إلى دخوله في تحديات مباشرة مع الوزير تتعلق بملاحظات الجهاز المركزي للمحاسبات على مالية الاتحاد والتي تحمل شبهات مالية على أداء إدارة الاتحاد، ونقده العلني لأداء الوزير واتهامه بالتدخل في عمل النقابات. الوزير كمال أبو عيطة ليس مجرد وزير للقوى العاملة، فهو مؤسس حركة النقابات المستقلة في مصر في عام 2008 والتي جاءت على خلفية موجة إضرابات عمالية عاتية ومثلت أكبر تحدّ ساعتها لوجود الاتحاد الرسمي واحتكاره تمثيل العمال، خاصة بعد تأسيس الاتحاد المصري للنقابات المستقلة الذي طرح نفسه خلال ثورة يناير كبديل ثوري للنقابات الرسمية. لذا، فعودة اتحاد العمال الرسمي على هذا النحو وإظهاره القوة والتحدي في مواجهة الوزير المؤسس للنقابات المستقلة قد يكونان مؤشراً على أكثر من شيء.
تجدر الإشارة في البداية إلى أن اتحاد نقابات عمال مصر تأسّس في عام 1957 بقرار من الدولة وليس بمبادرة عمالية. وعلى الرغم من أن الأنظمة التي أعقبت الرئيس جمال عبد الناصر دأبت على إزالة آثاره ومحو المؤسسات التي بناها، كان اتحاد العمال الرسمي المؤسسة التي تتسلمها الأنظمة المتعاقبة وتحافظ عليها. السر وراء نجاة اتحاد العمال في كل التحولات التي شهدتها مصر منذ تأسيسه حتى الآن هو أن كل من تقلد السلطة في مصر كان بحاجة إلى ذراع عمالية. كان الدرس الذي تعلمه عبد الناصر في 1954 عندما استعان بالنقابات لتنظيم إضراب عمالي جرت الدعوة إليه عبر الإذاعة الرسمية لتأييده ضد محمد نجيب هو الدرس الذي وعاه اتحاد العمال الرسمي واستوعبته كل الأنظمة التالية على السواء.
لعب الاتحاد الرسمي دور الذراع العمالية للسلطة القائمة على مدار أكثر من نصف قرن ولم يغيّر موقفه من السلطة تغيّر أشخاصها أو مواقفها. ساند الاتحاد عبد الناصر في الحرب ضد إسرائيل ودعم المجهود الحربي، ثم ساند الرئيس أنور السادات في الصلح مع إسرائيل وصاحب رجاله السادات في زيارة القدس. دافع بضراوة عن القطاع العام في الستينيات وأيّد الخصخصة وطالب بها في عهد الرئيس حسني مبارك. كانت مهمة الاتحاد دائماً هي تبنّي ما تتبنّاه السلطة الحاكمة باسم عمال مصر والدفاع المستميت عنها وإعطائها شرعية شعبية. هكذا أدرك الاتحاد الرسمي أن بقاءه مرتبط بتبنّي السلطة التي أوجدته وأدركت الأنظمة المتعاقبة أهمية أن تكون لها ذراع عمالية. هذه العلاقة ضمنت لاتحاد العمال البقاء دائماً فوق كل التقلبات والتغيرات، وبغض النظر أيضاً عن قبول القواعد العمالية به وعن أي دور يقوم به تجاه مطالب العمال وقضاياهم.
ولكن ما حدث في السنوات الأخيرة أن الاتحاد واجه ظروفاً جديدة تماماً عليه. فقد انفجرت موجة عارمة من الاحتجاجات العمالية منذ نهاية عام 2006 كشفت وقتها بوضوح عجز الاتحاد عن السيطرة على الحركة العمالية. أدت هذه الحركة إلى تأسيس نقابات عمالية مستقلة عن اتحاد العمال، وهو ما مثّل تهديداً مباشراً لوجوده وصعود بديل عمالي يحظى بشرعية وتأييد من العمال ويكسر احتكار الاتحاد لتمثيل عمال مصر والتحدث باسمهم. ولكن الاتحاد الذي بدأ يهتز قبل ثورة «25 يناير» أخذ في الترنح بشدة مع انفجار الثورة. ففي ميدان التحرير تم إعلان تأسيس الاتحاد المصري للنقابات المستقلة يوم 30 كانون الثاني 2011. وعقب الثورة اتُّهم قادة الاتحاد الرسمي بالتورط في موقعة الجمل الشهيرة، فضلاً عن الدفاع المستميت من الاتحاد عن مبارك ونظامه حتى سقوطه. ولأول مرة يواجه الاتحاد الرسمي وضعاً جديداً لم يمر به من قبل، ليس فقط لفقدانه الشرعية التي استند إليها مع سقوط مبارك، ولكن أيضاً لظهور حركة النقابات المستقلة وتصديها لملء الفراغ النقابي. محاولة الاتحاد تقديم أوراق اعتماده للسلطة الجديدة باءت هي الأخرى بالفشل ساعتها. فقد حاول الاتحاد تنظيم تظاهرة لمطالبة المشير حسين طنطاوي الذي قاد المرحلة الانتقالية حينها بتولّي رئاسة الجمهورية، فجاءت النتيجة هزيلة، ولم يحشد الاتحاد سوى العشرات. وهو ما أكد للقائمين على السلطة ساعتها عدم جدوى احتفاظ السلطة بذراع عمالية عاجزة بالفعل عن القيام بأي شيء.
في ظل هذا الوضع، أصدر وزير القوى العاملة الأسبق إعلان الحريات النقابية الذي أكد فيه استقلالية النقابات العمالية ومبدأ التعددية النقابية. كذلك قرر حل مجلس إدارة الاتحاد وتأليف لجنة لإدارته. كان الاتحاد في هذه اللحظة في النزع الأخير، وبدا للجميع أن أمره قد انتهى.
لم تستمر الأمور على هذه الحال، فقد بدأ الاتحاد يعود بقوة، سواء في لجنة الخمسين، الموكل إليها تعديل الدستور، أو في المجلس القومي للأجور، الموكل إليه مراجعة الحد الأدنى للأجور، وتمكن من وقف إصدار قانون الحريات النقابية، الذي تم إعداده عقب ثورة يناير. ودخل الاتحاد في تحديات جديدة مع وزير القوى العاملة الذي جمع بين شرعية ثورة «يناير» وشرعية ثورة «30 يونيو»، وبدا كأنه يولد من جديد.
عودة الاتحاد الرسمي على هذا النحو تطرح سؤالاً مهماً، وهو: من يحتاج اليوم إلى ذراع عمالية تؤيده وتدافع عن مواقفه؟ لقد كانت محاولة الاتحاد تقديم أوراق اعتماده إلى المجلس العسكري محاولة فاشلة. ولكن الدور الذي قام به في الحشد تلبية لدعوة التفويض التي أطلقها وزير الدفاع في 26 تموز الماضي جاءت مختلفة، فقد أثبت قدرته على أداء الدور الذي أداه تاريخياً عبر حشد هيئاته ولجانه الفرعية في كل مكان في مصر ورفع لافتات التفويض على كل مقاره. هكذا بدا بقاء الاتحاد مفيداً للنظام التالي، وأن بقاءه قوياً سيكون أفضل لأنه سيعني تقديم دعم ومساندة أفضل. تتواكب عودة الاتحاد على هذا النحو مع تراجع ملحوظ في أداء النقابات المستقلة التي لم تنجح في خلق تماسك تنظيمي وهيكلة وضعها بما يكفي على مدار السنوات الماضية. وهو ما يضاعف من مخاطر عودة الاتحاد بطابعه البيروقراطي وولائه للنظام الحاكم من دون وجود ممثل قوي ومتماسك للعمال. الوضع الحالي المتمثل في عودة اتحاد العمال الرسمي إلى الصعود وتراجع النقابات المستقلة يعتبر تهديداً جدياً لأهم ما أنجزته الحركة العمالية عبر آلاف الإضرابات العمالية في السنوات السابقة. ولكنه على الجانب السياسي يمثل خطراً أكبر على ما أنجزته ثورة «25 يناير» نفسها. فعودة الاتحاد قوياً ومتحدياً واستعادته لتوازنه وثيقتا الصلة بالتحولات الجارية. فالذراع العمالية للسلطة ما زال لها أهمية لدى السلطة القائمة، وغالباً القادمة. من يُبق على الاتحاد اليوم هو من يعلم أنه سيحتاج إلى غطاء شعبي، مزيف بالفعل، لسلطته أو لقراراته مستقبلاً. استرداد الذراع العمالية للسلطة معناه ببساطة استعادة الاستبداد والقمع والحاجة إلى غطاء لها. تحمل عودة الاتحاد على هذا النحو معنى أوسع كثيراً من حدود الوضع النقابي واستمرار مصادرة الحريات النقابية والأخطار المحدقة بالحركة العمالية وما استطاعت انتزاعه من قبل، وخاصة الحق في التنظيم المستقل. لقد كان صعود النقابات المستقلة وتحدي الحركة العمالية المناضلة لأحد أعرق أدوات السيطرة لدى السلطة مؤشراً مهماً على اقتراب نهاية نظام مبارك. واستعادة السلطة اليوم لهذه الذراع وتقويتها هما أقوى المؤشرات على استعادة النظام وإعادة إنتاجه.