«سلامي على الدولة كالسيف مسلولة، يا نعمة المولى ودولتنا منصورة... سلامي على بغداد وأبطالها الاساد فرسان الاستشهاد ودولتنا منصورة...». على وقع هذه الكلمات التي ترافقها موسيقى عالية، تجوب سيارة ترفع راية «الدولة» في أحياء «ولاية الرقة الاسلامية» التابعة لـ «الدولة الاسلامية في العراق والشام».
تتوقف السيارة الى جانب أحد المقاهي. يترجّل منها شاب يلبس ثوباً قصيراً يحمل مكبّراً للصوت، وينادي بلهجة غير سورية: «ويللي ما يصلي تعبان، منه ربنا غضبان، ونبغي نصلي يا الله». ثم يبدأ «خطبته» متوجهاً الى «معاشر الشباب والفتيات» بـ «اسمع يا طيب ويا طيبة»، ويسرد أحاديث نبوية عن الصلاة ووجوبها وفضلها، ويُقاطع بين فينة واخرى بالتكبيرات والشعارات المطالبة بإسقاط النظام.
هكذا يمارس «المطاوعة» في «قندهار سوريا» نشاطهم «الدعوي». يجول «رجال الدولة» على الأحياء يومياً، والمقصود بـ «الدولة» هو «الدولة الاسلامية في العراق والشام»... هكذا ينبغي أن توصف «الدولة» هنا. أما من يجرؤ على التلفظ بالاسم المختصر، «داعش»، فعليه أن يتوقّع حساباً عسيراً على أيدي «المجاهدين».
ومنذ أن دانت لها الرقة، فرضت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» مفاهيمها وقوانينها على «الولاية». آخر «انجازاتها» منع الشبان من ارتداء سراويل «الجينز» والكنزات، فيما فرض على النساء ارتداء اللباس الاسلامي (العباءة والبرقع) وحظر عليهن وضع المكياج وزيارة طبيب ذكر أو مغادرة المنزل من دون مرافقة أحد محارمهن الذكور، كما منع تدخين السيجارة والنرجيلة، والاعلانات التي يظهر فيها شعر نسائي، وعرض الملابس النسائية في واجهات المحال (يجب أن تكون البائعة أنثى)، ومحال الخياطة النسائية إذا وجد رجال فيها. وبطبيعة الحال، منع الاختلاط في المدارس والمعاهد، وفرض الحجاب على الفتيات بدءا من الصف الخامس الابتدائي، وووزّع عليهن مجاناً. وقد اقتحم مسلحو «الدولة» الاسبوع الماضي مدرسة حكومية للإناث في حي طريق الباب بسبب الاختلاط بين المدرسين والمدرسات والتلميذات، وطردوا عشرين من الكادر التعليمي، وأعلنوا اغلاق المدرسة حتى قيام مديرية التربية بتعيين مدرسات إناث فيها.
يقول عمار، الشاب الجامعي الذي يعمل بلاطاً بعدما ترك دراسته ليعيل أسرته: «تكاد لا تعرف المدينة لحظة دخولك إليها، حتى الهواء مختلف تماماً عما ألفناه في مدينتنا. قطعت الأشجار المعمرة في مدخل المدينة وبيعت لتجار الأخشاب، القمامة تملأ الشوارع وتحولت ضفاف نهر الفرات إلى مكبات، تلال من القمامة تحرق في مكانها ليخنق الدخان الأسود المدينة». ويشير الى «أن معظم الآليات التابعة لمجلس مدينة الرقة أصبحت خارجها. أسطول ضخم من السيارات والجرارات وضاغطات القمامة جرى بيعه، حتى أسلاك الكهرباء والمحولات جرى الاستيلاء عليها وبيعها».
بالنسبة الى عبد الله (31 عاماً)، لم تعد الرقة مدينته التي عرفها. «الحياة أصبحت مستحيلة. وضع المدينة سيئ جداً. الدولة كشّرت عن أنيابها، وكل من يعارضها يكفّر، ثم يقتل!»، يقول عبد الله الذي كان عنصراً فاعلاً في اندلاع «الثورة» في الرقة، وقرّر أخيراً أن يرحل عنها نهائياً.
يروي عبد الله «كانت الثورة مميزة رغم الاخطاء القليلة التي كانت تحصل. لم تُسجّل اعمال سرقة او نهب. وقد أنشأ الاهالي حينها لجان حماية. كانت الحياة رائعة». ويضيف: «كل شيء كان متوافراً ورخيصاً، حتى الماء والكهرباء. الى ان تغيّرت حياتنا على نحو جذري بعد إعلان ضم جبهة النصرة إلى الدولة الإسلامية في العراق. ساد الخلاف في المدينة وانقسم الناس. قسم بايع الدولة، والقسم الآخر خرج مع النصرة من المدينة. وللاسف، أسوأ عناصر النصرة هم الذين التحقوا بالدولة».
محمد (36 عاماً)، وهو أب لاربعة أطفال، لم ينتظر كل هذه المدة حتى يغادر المدينة الى حمص، وخصوصاً انه كان متطوعاً في الشرطة. ظل شهراً كاملاً يحاول الخروج من المدينة. يقول: «عند دخول داعش لاحق المسلحون الموظفين الحكوميين. من كان يعتقل كان يُصفّى او يخطف ويبقى مصيره مجهولاً. كان الوضع كان مأساوياً. كنا نخاف حتى من أن نُضبط ونحن نشاهد القنوات السورية»!
وأكثر ما يخيف أبناء الرقة اليوم عمليات الخطف التي ارتفعت وتيرتها أخيراً، وطاولت أساساً من كانوا «من خيرة الناشطين في الثورة» بحسب عبد الله، ومن أبرز هؤلاء المحامي عبد الله الخليل، فراس الحج صالح، وابراهيم الغازين، والأخير «احد أهم المحركين والفاعلين في المدينة منذ بدء الثورة»، كما خطف أخيراً الناشط حازم الحسين. ويقول عبد الله ان غالبية الناشطين «إما هربوا من المدينة بعد التهديد بالقتل، أو خطفوا او قتلوا». وآخر الذين جرت تصفيتهم الناشط المعارض الملقّب بـ «مهند حبايبنا». وقد تظاهر الاهالي مراراً مطالبين بالافراج عن الناشطين الموجودين لدى «الدولة»، التي تحتفظ بهم في سجن «سد البعث»، في قرية المنصورة، الذي غيّرت داعش اسمه الى «سد الفاتح».
والى الناشطين، طاولت عمليات الاعدام، بطبيعة الحال، كثيرين بتهمة «التعامل مع النظام». يقول عبد الله: «رأيت بأم العين ثماني عمليات إعدام علني في ساحة الساعة وساحة النعيم وسط صرخات: نصيرية، علوية، شبيحة...». ويضيف: «هؤلاء لا علاقة لهم لا بالانسانية ولا الدين. لقد شوّهوا الاسلام ونفّروا الناس منهم بسبب تصرفاتهم»، جازماً بأن «نسبة المنسجمين معهم لا تتعدى الـ 25 في المئة من سكان المدينة».
وعود بـ «الإنماء»
يقرّ مصدر جهادي بوجود «بعض التجاوزات»، ويعزوها الى «لصوص يدّعون أنهم ثوار»، مؤكداً لـ «الأخبار» أن «عناصر الدولة يقاتلون هؤلاء». ويتابع أن «الدولة» في صدد «القيام بمشاريع إنمائية كثيرة في المدينة، وخصوصاً ان المنطقة تحتوي على مصادر للموارد الطبيعية، كالنفط والقطن والقمح والشمندر السكري». وبالفعل، تؤمّن «الدولة» المحروقات لشركات الاتصالات مقابل جباية 200 ليرة عن كل مشترك!
الباحث الفرنسي في «المعهد الفرنسي للشرق الأوسط» رومان كاييه، المتخصص في الشؤون الاسلامية، يصف «داعش» بـ «المنظمة التي يقودها قادة ذوو خبرة طويلة». ويقول لـ «الاخبار» ان عناصر «الدولة»، على اختلاف جنسياتهم (سوريين، خليجيين، فرنسيين، شيشانيين، صينيين...)، «يتميّزون بالانضباط والتنسيق الاستراتيجي التكتيكي»، ما ادى الى نجاحهم في القضاء على بقية الجماعات المسلحة.
ويلفت كاييه الى ان «الدولة»، في سبيل تثبيت أقدامها، تركّز على تربية جيل جديد من «المجاهدين»، لذلك تنشط خصوصاً في صفوف «الاطفال والشباب في تطبيق الدعوى في المناطق الحضرية». وقد افتتحت في الرقة، أخيراً، مدرسة لتعليم القرآن الكريم يلقن فيها الأطفال الخطوات الأولى حول دولة الخلافة الإسلامية.




ازدهار تجارة السيارات... والقمامة


رغم سيطرة الموت على المشهد اليومي للحياة في الرقة، إلا أن الناس ما زالوا يحاولون إيجاد سبل للبقاء على قيد الحياة.
تجارة السيارات هي الرائجة بعد تجارة النفط، وقد انتشرت مكاتب بيعها في معظم أرجاء المدينة. وتُباع سيارات بلا ضريبة للرفاهية كانت تأخذها الحكومة سابقاً عن السيارات السياحية، وفيما عادت المدينة الصناعية إلى العمل ونشطت فيها الحركة على نحو ملحوظ بسبب ازدياد عدد السيارات، يستورد التجار بضائعهم من تركيا، إلا أن الأسعار مرتفعة جداً.
أما البسطاء، فقد اختاروا سبلاً للحياة مستقاة من بساطتهم، فاشترى بعضهم صنارة صيد أو شباكاً، حسب قدرته المادية، وقصد نهر الفرات وامتهن صيد الأسماك. وتحول سوق الهواتف الخلوية في شارع الوادي وسط المدينة إلى سوق للأوراق المالية وتصريف العملات، وخصوصا أن انقطاع شبكة الاتصالات عن المدينة قد يستمر أسابيع في بعض الأحيان. واستورد بعضهم أجهزة للاتصال الفضائي لضمان تواصل المغتربين من أبناء الرقة مع أهاليهم بأسعار مرتفعة للدقيقة الواحدة.




تربية «داعش» والمرسوم الرئاسي

فراس الهكار

بدأ العام الدراسي في «ولاية الرقة»، ولا يريد الأهالي أن يفوتوا على أطفالهم عاماً دراسياً آخر. التحق بعض المعلمين بالمدارس، ووزع المجلس المحلي، على الأطفال في مناطق الرقة كافة، حقائب زرقاء قدمتها منظمة اليونيسف لتلاميذ المدارس وقد خصت الرقة بنحو 60 ألف حقيبة مدرسية مع دفاتر وأقلام.
أرسلت وزارة التربية السورية الكتب من دمشق إلى الرقة لجميع المراحل الدراسية باستثناء كتابي مادتي التربية الإسلامية والقومية الاشتراكية، فيما طبعت «الدولة الإسلامية» كتباً خاصاً لمادة التربية الإسلامية وألغت مادة القومية الاشتراكية من المناهج الدارسية كافة.
وأخلت بعض كتائب المعارضة المسلحة المدارس التي كانت تشغلها كمقارّ لها أو مشافي ميدانية أو معتقلات للتوقيف والتحقيق، بينما بقيت مدارس أخرى مشغولة بكتائبها. وقضى بعض الأطفال عطلة الصيف في حفظ القرآن وتعاليم الدين الإسلامي، بعدما نشطت هيئات وجمعيات كثيرة في هذا المجال.
وأصدرت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» قراراً فرضت بموجبه الحجاب والعباءة على الفتيات من الصف الخامس الابتدائي، أي من عمر 11 سنة فما فوق، ومنعت لبس البنطلون للفتيات والتبرج والعطر الصارخ، كما منع سماع الأغاني، وإقامة حفلات الزفاف، وضرب الدف في الموالد على الطريقة الصوفية. ومنع الشبان من ارتداء القلائد، وأُعلن أن عقوبة كل من يشرب الخمر أو لا يصوم شهر رمضان الجلد. وسبق أن أصدرت «الدولة الإسلامية» قراراً منعت بموجبه «الأراكيل» في المقاهي. بعد ساعة من صدور القرار اختفت «الأراكيل» من المدينة، رغم أن القرار ذاته كان قد صدر بمرسوم رئاسي رقمه 62 لعام 2009 لكن أحداً يطبقه أو لم يلتزم به.