مؤتمر وراء مؤتمر في بضعة شهور، آخرها «المؤتمر المسيحي المشرقي» في بيروت، السبت الماضي، في حضور «شخصيات سياسية واجتماعية ومدنية مسيحية من لبنان والأردن وفلسطين والعراق ومصر وسوريا»؛ مؤتمر، كما سبقه، دوافعه الخوف من اعتداءات التكفيريين الإرهابيين، ومطالبه من العرب ــــ على حدّ تعبير رئيس الرابطة السريانية، حبيب أفرام ــــ «وقفة ضمير ووقف الهجمة»، ومن الغرب الوقوف «موقف الحريص بالتعاطي معنا»!
نحن، إذاً، مسيحيي المشرق، الطائفة الضعيفة المسكينة المضطهدة التي تتعرض للعدوان والإبادة والتهجير، نستصرخ الضمائر! ونطالب «العرب» و«الغرب»! فيا لعار المطالب والمُطالبين! كلا. بل نحن، مسيحيي المشرق، عموده القوميّ، وبصدورنا وسلاحنا، نذود عنه هجمة الصحراء الوهابية التكفيرية المتحالفة، أبداً، مع عرب الرجعية وغرب الإمبريالية، ونسمّي الأشياء بأسمائها: في خندق المسيحية المشرقية وقف جنود الجيش العربي السوري وأبطال حزب الله؛ فصدّوا، ويصدّون، الهجمة عن هذا الخندق الحضاري بدمائهم الزكية التي لم تجد في مؤتمر بيروت ــــ وسواه من المؤتمرات الطائفية ــــ مَن يحييها باسم السيد المسيح، المقتول، تكراراً، على أيدي المسيحية اليهودية في الغرب الرأسمالي. (يقول ماركس: ماتت اليهودية في أوروبا، لأن الأخيرة تهوّدت، ولم تعد بحاجة إلى المرابي اليهودي حين حلّ محله رأس المال المالي). إنما لا يزال للمسيحية المشرقية، في أورو آسيا، حلفاء ومريدون، وضعوا كل ثقلهم وراء دمشق، عاصمة المسيح المشرقي الأبدية، أم أن بطريركية موسكو وسائر روسيا ليست أوروبية؟
بالهجمة التكفيرية الجديدة ضد المسيحية المشرقية، التي أطلقها «الربيع» الخليجي ــــ التركي ــــ الاخونجي ــــ السلفي، وقع الطائفيون المسيحيون ـــ وخصوصاً في لبنان ـــ في مأزق فكري وسياسي معاً ـــ وهو مأزق ناجم، في الأساس، عن غياب الضمير المسيحي ـــ؛ فالقوى التي تضطهد المسيحيين المشرقيين، الآن في هذه اللحظة، وتطاردهم في ديارهم وتدمّر كنائسهم وأوابدهم وتحاول استئصال جذورهم، هي نفسها القوى الحليفة، تقليدياً، لأولئك الطائفيين ــــ وخصوصا في المملكة العربية السعودية ــــ بينما القوى التي خاضت، وتخوض، المعركة دفاعاً عن المشرق التعددي هي نفسها القوى التي طالما عاداها الطائفيون المسيحيون، وأعني تحالف النظام السوري وحزب الله والقوميين ويسار حركة التحرر الوطني؛ فأين هو المخرج من الخيار المطروح بين «حليف» تقليدي ينهش كالذئب لحم المشرق ومسيحييه، و«عدو» تقليدي، يصدّ الذئب، ويصارعه، عسكرياً وسياسياً؟ أيكون المخرج ــــ اللاأخلاقي ــــ مرة أخرى، بالارتداد نحو الطائفية ـــ ولو طلبتْ «التعايش»، فمفهوم «التعايش» نفسه طائفيّ ـــ ومن ثمّ ترجّي حلفاء الطائفيين المسيحيين، من الرجعيين العرب، «وقفة ضمير»، وكأن، عند هؤلاء القَتَلة المسعورين ضمير بشري أصلاً؟
ولا ينتهي المأزق هنا؛ فالأم الرؤوم للطائفيين المسيحيين ــــ فرنسا ــــ هي نفسها التي تغطي التكفيريين الإرهابيين وتزوّدهم بالدعم السياسي والمالي والتسليحي وتدفع نحو انتصار الهمجية على المشرق الحضاري، والولايات المتحدة التي طالما اعتبرها أولئك درعهم، هي التي تقود الحرب السوداء ضد بلد المسيحية المشرقية؛ فما العمل سوى الركوع طلبا لـ «حرص» لا يمكن أن يكون لدى الإمبرياليين إلا على مصالحهم الاقتصادية والعسكرية والسياسية، معتبرين دمار المسيحية المشرقية، «نتيجة عَرَضية» لتحقيق الهدف الرئيسي، ألا وهو تدمير الدولة الوطنية السورية وحزب الله وكل قوى ونشطاء حركة التحرر الوطني المشرقية، فلا يكون هناك في بلادنا إلا العبودية للغرب والصهيونية.
ليس الجوهري ــــ بالنسبة للمسيحية المشرقية ــــ تلك الظواهر، التي تهتم المؤتمرات بدراستها، كالخوف من الاضطهاد والهجرة وزيادة عدد المناصب الحكومية الخ... بل الجوهري هو الدفاع عن دولتنا الأم في هذا المشرق، الجمهورية العربية السورية؛ ففيها لم يخف أحد بسبب دينه أو مذهبه، بل فرح وابتهج وغنى، وفيها لم يكن هناك من أسباب الهجرة إلا ما يدفع كل سوري، لأسباب اقتصادية، للهجرة أو ــــ على وجه الدقة ــــ للاغتراب، وفيها ظل المغتربون جزءاً من الوطن وثقافته وروحه واهتمامه، وفيها لم يقف الانتماء الديني عائقاً أمام الحصول على أعلى المناصب وأهمها. ولنتذكّر، فقط، وزير الدفاع الشهيد البطل داود راجحة!
كذلك، كانت ـــ ولا تزال ـــ قضيتنا في العراق، هي قضية الدولة المدنية العلمانية التي دمّرها الاستعمار الأميركي، فكانت «النتيجة العَرَضية» تهجير المسيحيين العراقيين. وهي، أيضاً، قضيتنا في لبنان الذي، في غياب دولته ــــ جراء سياسات الطائفيين وحلفائهم ــــ يفيض مسيحيوه خارجه. ولا تسل عن فلسطين، حيث يحتدم التناقض بين الهوية المسيحية الفلسطينية والصهيونية...
يدعو مؤتمر بيروت المسيحيين إلى الاستمرار في «رسالتهم كحملة للبشارة والشهادة للإنجيل». كلام يشبه كلام السلفيين ولا يشبهنا، ولا يشبه دورنا المشرقي التحرري منذ النهضة، لا يشبه العلماني جبران خليل جبران ولا الشيوعي فؤاد الشمالي ولا القومي انطون سعادة ولا البعثي ميشيل عفلق؛ نحن ورثتهم!