لم يتردد الاخضر الإبراهيمي في إظهار طباعه عندما أجاب بـ «لا» فجّة، رداً على سؤال صحافي في بيروت عما اذا كان سيزور السعودية. ولعلاقة الإبراهيمي بالرياض فصل مختلف في قصة مهمته كمبعوث أممي ــــ عربي مشترك في شأن الازمة السورية.
أساساً، اختير الدبلوماسي الجزائري في منصبه هذا خلفاً للأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي انان، الذي ووجه تعيينه بفيتو سعودي صامت. وفي المقابل، فتحت السعودية أبوابها أمام الابراهيمي، ونُظر إليه في الكواليس الدولية على انه رجل واشنطن والرياض معاً. ومن المصادفات ان الإبراهيمي اعلن وفاة علاقته بالسعودية من بيروت، وهي العاصمة التي شهدت بداية هذه العلاقة، وذلك في اطار مهمة سرية لا تزال بعيدة عن متناول الاعلام.
تعود وقائع هذه المهمة الى عام ١٩٨١. في أحد أيام ذلك العام وصل الإبراهيمي الى العاصمة اللبنانية بصفته وزيراً للخارجية الجزائرية. لكنه أسرّ الى احد اصدقائه اللبنانيين بأنه مبعوث بتكليف اميركي لعقد اجتماع سري مع بشير الجميل، طالباً منه ترتيب عقد الاجتماع. إلا أن الصديق اللبناني استنكف عن القيام بهذه المهمة، وعرض على الدبلوماسي الجزائري ان يرتب له اللقاء عبر الأمين العام للخارجية اللبنانية آنذاك نجيب الدحداح، وان يعقد اللقاء في منزل الاخير. وبالفعل هذا ما حصل، وأبلغ الابراهيمي قائد القوات اللبنانية يومها الرسالة الاميركية التالية: «طريق قصر بعبدا مفتوحة أمامك. وانا أضمن لك فيزا لزيارة السعودية». وكان هذا اللقاء بداية خطوات بشير السرية على درب رئاسة الجمهورية، وأولى خطوات الإبراهيمي ليصبح ليس رجل اميركا في الجزائر فحسب، بل الرجل المشترك بين واشنطن والرياض.
وفي الاسبوع الماضي، اعلن الإبراهيمي، من بيروت، انتهاء صلاحية صفته السرية هذه، ليعلن نفسه «رجل الافتراق» السياسي الحاصل حاليا بين السعودية وأميركا.

نقاط الإبراهيمي الخمس

أثناء وجوده في العاصمة اللبنانية يومي الجمعة والسبت الماضيين، حرص المبعوث الأممي على الاستماع الى رأي محادثيه اللبنانيين الاربعة الذين التقاهم، وهم الرؤساء ميشال سليمان ونبيه بري ونجيب ميقاتي، ووزير الخارجية عدنان منصور. وهو شعر بأن أولوية المسؤولين الأربعة في حديثهم معه هي الاطلاع منه على نتائج جولته الإقليمية ولقائه الرئيس بشار الاسد، حتى إن أحد محادثيه اللبنانيين قال له: «انت تسألني عن رأيي، فيما أن انتظرك بفارغ الصبر لاسمع منك آخر اخبار مساعيك». وقد ردّ الابراهيمي بعبارات مقتضبة، لكنها موحية، بدلالاتها، عن طبيعة اللحظة التي وصلت إليها الأزمة السورية. وركّز، بحسب أحد المسؤولين الذين التقوه، على خمس نقاط، أبرزها اثنتان منها مرتبطتان مباشرة بالبحث عن «مادة سياسية» لا تزال مفقودة، تصلح كمضمون لعقد اجتماع «جنيف ٢».
جوهر النقطة الاولى، كما عرضها الابراهيمي، أن «جنيف ٢» يجب ان يكون امتداداً سياسياً لــ «جنيف ١»، في اشارة واضحة الى ضرورة ان يتضمن جدول اعمال «جنيف ٢» نقاش آليات تطبيق «بيان جنيف» الذي صدر عن المؤتمر الأول، وخصوصاً مادته المتعلقة بمرحلة انتقالية في سوريا.
والنقطة الثانية أن موافقة الرئيس الاسد على نصيحة موسكو بالذهاب الى «جنيف ٢» من دون شروط مسبقة، أحرجت المعارضة وسلّطت الضوء على تشتتها، وأظهرت عمق ازمتها البنيوية الكبيرة. وأشار، في هذا المجال، إلى ان الحديث يدور اليوم عن تمثل هذه المعارضة في المؤتمر العتيد بثلاثة وفود.

مقاربة دمشق

تثير مقاربة الإبراهيمي للنقطة الاولى تبايناً مع العاصمة السورية. وربما كان هذا سبب انتقادها له على لسان وزير اعلامها. فدمشق، بحسب مقربين من النظام، لديها تشخيصها للموجبات المستجدة التي املت السعي الى عقد «جنيف ٢»، وأيضا لوظيفته الموضوعية داخل مسار حل الازمة سياسياً. وهي ترى أن المؤتمر يمثل «استراحة» لكل أطراف الأزمة، الدوليون منهم والإقليميون، إذ إن هؤلاء مارسوا في الشهرين الماضيين سياسة الحد الاقصى من التصعيد الذي أفضى الى فشل رهاناتهم. والآن، يتجه الجميع ــــ باستثناء السعودية ــــ إلى تهدئة اللعبة عبر إرساء مرحلة انتقالية من الخيار العسكري والسياسة المتطيرة الى خيار الحل السياسي وعقلنة توجهاتهم تكيفاً مع حقائق الارض والتوازنات الدولية. كل هذه المعطيات تقود دمشق للنظر الى ان لـ «جنيف ٢» وظيفة «استراحة المحارب». أما مسار البحث الجدي عن تسوية، فقد يحتاج الى «جنيف ٣» و٤ وربما ١٠ حتى يبلغ نهايته السعيدة، مع عدم إغفال تمسكها بـ «سورنة» الحل.

تغير قواعد اللعبة

وترى دمشق، في هذا المجال، ان ما يجب اخذه في الاعتبار خلال بحث موجبات «جنيف ٢» هو المعطيات الدولية والاقليمية والداخلية التي استجدّت منذ «جنيف 1»، إذ إن «قواعد اللعبة تغيّرت»، أقله لناحية أن الأميركيين باتوا أكثر اقتناعاً بضرورة تجنّب تكرار الخطأ الذي ارتكبوه في العراق، وخصوصاً لجهة حل الجيش واعتماد سياسة «اجتثاث البعث»، كما تأكّدوا انهم غير قادرين، ازاء الازمة السورية، على انشاء تحالفات دولية كالتي سارت وراءهم في حربهم في أفغانستان. وهم إذا ما حاولوا المكابرة والذهاب في هذا الاتجاه مستقبلاً، فسيواجهون موقفاً إيرانياً وروسياً وصينياً كفيلاً باحباطه. أضف الى ذلك ان المعارضة ـــ جناح «الائتلاف الوطني» ـــ خذلت واشنطن بعدما تبين أنها لا «تمون» على الارض داخل سوريا، فيما المعارضة الداخلية تُحتضر، وأن لها خشبة خلاص وحيدة تتمثل في التنسيق مع النظام، ما يجعلها أفعل وأرقى، وخصوصاً بعد اكتساح الحركات الاسلامية التكفيرية معظم مناطق المعارضة. وأيضا بعد اتضاح انعدام الخيارات أمام مجموعات «الجيش السوري الحر»، وصارت محكومة بواحد من أمرين: إما العودة الى مؤسسة الجيش العربي السوري، وهذا ما يحدث على نحو لافت في الآونة الاخيرة، أو مسايرة مجازر «داعش» و«جبهة النصرة» لاستظلال حمايتهما، وهذا ما حدث عندما زار رئيس هيئة أركان هذا «الجيش» سليم ادريس ريف اللاذقية بعد مجزرة التكفيرين الاخيرة فيه وهنّأ مرتكبيها.

حكومة بصلاحيات كاملة أم موسعة؟

وبحسب مصادر دبلوماسية واكبت مجريات جولة الابراهيمي الاخيرة، فان طروحاته قاربت لحظ محاولة ترتيب جدول اعمال لمسار الحل، يقوم على وقف العنف أولاً، ثم اعادة تركيب الاجهزة الامنية، وثالثاً إجراء انتخابات رئاسية، فيما تطرح دمشق وقف التمويل والدعم اللوجستي الخارجي للإرهابيين مدخلاً اجبارياً لوقف العنف. أما في ما يتعلق بالحوار السياسي، فتتمسك دمشق بـ «سورنة الحل»، وترفع شعار «نقاش مستقبل سوريا الجديدة يجري بحوار سوري ــــ سوري بعيداً عن اية إملاءات خارجية، كما ان اعلان الحل سيكون من دمشق لا من اي عاصمة اخرى».
وتؤكّد المصادر نفسها أن المكان الحقيقي الذي تجري محاولات دولية حثيثة لاحداث اختراق فيه، هو ذاك المتصل بتحديد طبيعة المرحلة الانتقالية وفقاً لبيان «جنيف ١». وتضيف إن مشاركة الأسد فيها او عدم مشاركته لم تعد، من حيث المبدأ، تتصدر أولوية النقاش الدولي الذي انتقل الى قضية محددة، وهي طبيعة الحكومة التي ستتكون منها المرحلة الانتقالية. ويحتدم الخلاف بين مصطلحين: الاول يقول به النظام ومفاده «حكومة موسعة الصلاحيات»، والثاني تطالب به المعارضة ومؤداه «حكومة كاملة الصلاحيات». والفارق ان «الحكومة الموسّعة» تبقي الحقائب السيادية في يد النظام، فيما «الكاملة» تنقلها الى أيدي المعارضة. وقد عرضت أخيراً تسوية لهذا الأمر لم تلق قبولاً تقوم على اختيار المعارضة والنظام معاً اسماء مستقلة لهذه الحقائب.
وتصف المصادر محصّلة جولة الإبراهيمي بأنها، اقليمياً، اصطدمت بـ «الحرد» السعودي الذي يأتي وزير الخارجية الأميركي جون كيري الى المنطقة لمعالجته. وعلى المستوى السوري، اصطدمت بضعف جاهزية المعارضة لدخول لحظة استحقاق داخلي تاريخي، الامر الذي جعل موقف النظام إزاء مناورات المبعوث الأممي أكثر قوة.