نيويورك | توقّع دبلوماسي في مجلس الأمن الدولي في نيويورك تراجع السعودية عن تخليها عن مقعد مجلس الأمن بعد فشل «مسرحيتها» التي اعتقدت بأنها ستؤدي إلى إعادة اعتبار فقدته نتيجة إخفاقاتها وطيش مخططاتها في الشرق الأوسط. وقال الدبلوماسي ساخراً: «السعودية تشبه تلك الزوجة العجوز التي كان لها مجد ذات يوم، ولم تنظر إلى المرآة لعقود خلت. خرجت من بيت زوجها الذي ضاق ذرعاً بها. توقعت منه أن يهرول خلفها فيعيدها عزيزة إلى منزله، لكنه لم يفعل. أدركت أن سحرها انقلب عليها، وباتت تفكر بأن تعود صاغرة وتتسلل في العتمة إلى فراشها، وكأن شيئاً لم يكن». السعودية لم تقدم حتى الآن رسالة رسمية للأمين العام بان كي مون، أو لرئيس الجمعية العامة جون آش، تقول فيها صراحة إنها تخلّت عن المقعد الذي فازت به بشقّ النفس ودرّبت له أكثر من عشرة دبلوماسيين في جامعة كولومبيا. مقعد وزع مندوبها لدى نيويورك، عبد الله المعلمي، «هدايا» وعلباً من تمر المدينة المنورة، طالباً المباركة والدعاء بالتوفيق.
كل ما قيل في الموضوع نشرته الصحافة. الرياض كما فعلت العجوز، دخلت بقرارها وأعلنت عبر وكالتها الرسمية أن لديها شروطاً للعدول عن التخلي. وهي لا تزال تحتفظ بمفتاح العودة واحتلال المقعد. لكن ما من أحد طالبها بتغيير رأيها، وبالأخص واشنطن التي كانت تفضّل أن يحتل الأردن ذلك المقعد، لا هي ولا الكويت.
المسؤولون الدوليون والدبلوماسيون ذُهِلوا من تلك السابقة التي لم يتخيّلوا حدوثها. وعندما يسأل مراسل عن تطورات الموضوع يكتم السائل والمسؤول ابتسامة. ولا يخلو السؤال من بعض التهكم والخبث. وغالباً تأتي الإجابة مقتضبة ومتهربة. الموضوع كله بات كوميديا ومادة للتندر بعد مرور أسابيع من سياسة الغموض التي تتبعها الرياض.
ومع غياب الرسالة، أعربت الأمانة العامة عن الاستعداد لمساعدة الدائرة القانونية للرياض في صياغتها أو تقديم المشورة بشأنها في حال طلبت العاصمة السعودية ذلك. لكنها لم تطلب، والوقت يمر. وآخر السنة يقترب، وبحلول العام الجديد يكون المغرب قد غادر مقعده ليحل محله السعودي أو خليفته. فهل تحدث سابقة أن يتقلص نصاب المجلس إلى ١٤ مقعداً بدلاً من ١٥؟ الميثاق لا يمنع حدوث ذلك. والدائرة القانونية الأممية لم تصل إلى حد إصدار فتوى في الموضوع.
يرجّح كثيرون أن تعود السعودية إلى مقعدها. فهي قد تكون بحاجة ماسة إلى منبر أو دور بعدما رحل الركب وابتعد نحو جنيف وتسوية لا يكون شور للرياض فيها. آخرون يقولون إن السعودية اختارت مقعدها في الخنادق والغرف السوداء. ولن تعود إلى الساحة السياسية إلا بعد أن تغير المعادلات، وقد بدأت تشعر بأن بطشها في العراق بدأ يؤتي ثماره. خمسة آلاف قتيل خلال هذه السنة، والفوضى تكاد تعم المنطقة. وفي الغرف السوداء تجوز التحالفات حتى مع العفاريت.
في المقابل، لا أحد ينتظر أن تلبي واشنطن شرط الرياض الأول لكي تعود؛ «حل القضية الفلسطينية». ولا الشرط المضمر الثاني؛ «توجيه غارات عسكرية لقوات الأطلسي إلى سوريا». ولا شرط إصلاح مجلس الأمن الدولي الذي لا يمكن أن يلبّى بين ليلة وضحاها. كما أن الدول الدائمة العضوية لا تزال ترفض تغيير صيغة ١٩٤٥.
إذا عادت السعودية إلى المجلس، فلا بد من اختيار مندوب جديد يتمتع بالقدرة على الكلام وحرية التعبير. فالمندوب السعودي تعرض لردود شديدة من مندوب سوريا بشار الجعفري خلال مداولات عديدة في مجلس الأمن حول سوريا. لكن رغم السجالات التي كانت تدور بين مندوبي السعودية وسوريا في أروقة المنظمة الدولية، شوهد الجعفري يهنئ المعلمي بالفوز بمقعد غير دائم في مجلس الأمن بعد التصويت في الجمعية العامة مباشرة، علماً بأنه ما من عاقل يمكن أن يصدق أن سوريا أيدت الترشيح أو صوتت بنعم عليه.
المعلمي مربوط اللسان. وفي المملكة ما من كبير إلا الكبير، أو إخوة الكبير. وهذا يعني أن من سيحتل مقعداً في مجلس الأمن لا بد من أن يتمتع بلسان مرتبط بجهازه العصبي وليس بـ«الروموت كونترول». وليس في المملكة من يتمتع بهذه المواصفات إلا سعود الفيصل، وزير الخارجية الذي مارس في الدورة الثامنة والستين من الجمعية العامة الأخيرة سياسة الرقابة الذاتية، وكفّ عن الكلام المباح. صمت حتى عن قراءة كلمة المملكة التي تعدّ في الأعراف الدولية من الفرائض، حكمها حكم خطبة الجمعة في الإسلام. من صفات المندوب الذي يحتل مقعداً في مجلس الأمن أن يكون دبلوماسياً في المقام الأول، مترفّعاً عن الترهات والمناكفات والسفاسف. وأن يكون منفتحاً حتى على الخصوم، ومستعداً عندما يتولى رئاسة المجلس أن يدعو مندوب إسرائيل إلى الكلام عندما يحين دوره، ولو تم ذلك بواسطة نائبه. ومطلوب منه أن يردّ على أي سؤال من أسئلة المراسلين من أصدقاء وخصوم بلباقة وحرية كي يعطي صورة محببة للنفوس. والمندوبون السعوديون اشتهروا على مر العقود بأنهم على درجة عالية من «الحياء» ويتوارون عن الأنظار بمجرد انتهاء الجلسات، وهم يقرأون كلمات غالباً ما تكتب من باب رفع العتب، إلا إذا تعلقت بمهاجمة سوريا وإيران، عندها تجدهم «سباعاً أشداء» يتمتعون بثقة عالية بالنفس. فمثل هذا العداء كان مستحباً في دين «الحلفاء» وعقيدتهم.
المشكلة الأكبر التي سيواجهها المندوب السعودي إذا عاد هي أنه سيجلس في مجلس الأمن ليل نهار لمدة عامين ويكون تحت الأنظار طيلة هذه المدة. وهذا ما يجعله مرمى سهلاً لمنتقدي السياسة السعودية التي كثر عدد النابذين لها بعدما أنجبت تنظيمات إرهابية لا تعدّ ولا تحصى في بلاد الشام والعراق وفي شمال أفريقيا ووسطها، وتفقس كالجراد في شرقها وغربها. وهذا يعني أن توضع السياسة السعودية تحت اختبار قصف مدافع الحجج والمنطق، والسعودية من هذه الناحية شيّدت حصوناً لعدالة من زجاج. ربما كانت السعودية تتوقع أنه عندما يحين موعد احتلالها مقعداً في مجلس الأمن الدولي، يكون عربان سوريا قد حكموا عربها. لكن ما كل ما يطلبه المرء يدركه.