لا أحد يعرف دوافعه حتى الآن ولم يستطع أحد التكهّن بخطواته اللاحقة... لكن «بوتين على حق». لأول مرّة منذ بدء الأزمة السورية يعترف معظم الإعلام الأميركي بأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مُصيب في ما يقول وما يفعل. لأوّل مرّة منذ بدء الحملة العسكرية الروسية في سوريا، لا يكرّر صحافيّو النظام الأميركي أن بوتين «يجرّ بلاده اقتصادياً وأمنياً الى الهلاك باتخاذه قراراً مصيرياً يتعلق بالشأن السوري».
بوتين «على حق» حسب معظم الكتّاب الأميركيين، أولاً لناحية أنه «حقق أهدافه المرجوّة»، وهو بالفعل حسب هؤلاء «مكّن النظام السوري من استرجاع قسم كبير من المواقع الاستراتيجية والأراضي التي كان خسرها، وقدّم للجيش السوري ولحلفائه دعماً عسكرياً كانوا بحاجة ماسّة إليه، ووضع النظام في موقع القوّة على أي طاولة مفاوضات حول مستقبل البلاد». ثانياً، هو «على حقّ» بشأن قراره سحب معظم القوات الروسية من الأراضي السورية. لماذا؟ يشرح المحللون نتائج قرار بوتين «الصائب» على الصعيد الروسي والسوري والدولي، منها:
ـ أن الرئيس بوتين، وبطريقته المفاجئة والأحادية في اتخاذ قراراته (قرار التدخّل في 30 أيلول 2015 وقرار سحب القوات أوّل من أمس) عزّز فكرة استقلالية القرار الروسي في السياسة الخارجية، لا سيّما حول سوريا، وثبّت دوراً قيادياً لروسيا في منطقة الشرق الأوسط عموماً.
ـ أنه بدعمه العسكري المباشر للنظام السوري، والذي مكّن الأخير من تحقيق مكاسب ميدانية وسياسية كبيرة، يقول للغرب إنهم ليسوا وحدهم أصحاب القرار في الشأن السوري وإن ترجيح الكفّة هناك سياسياً وعسكرياً ليس بيدهم حصراً.
ـ أنه احتفظ بإمكانية تنفيذ هجمات عسكرية في سوريا متى يشاء، بالإبقاء على مطار حميميم في اللاذقية والقاعدة العسكرية البحرية في طرطوس، إذ لمَ الحاجة الى قوة ضخمة وعديد هائل ما دام هناك قوّة صغيرة لكن فاعلة؟
ـ أنه وفّر على روسيا تبعات الدخول في اشتباك مباشر وأكثر دموية مع قوى قد تقوم بهجمات مضادة على الأراضي الروسية.
ـ أنه جنّب الاقتصاد الروسي انهياراً آخر كان من شأنه زيادة الخناق على الخزينة وعلى معيشة المواطنين الروس.
ـ أنه سوّق للأسلحة الروسية الجديدة التي لفتت انتباه العالم بتقنياتها الحديثة، مثل صاروخ «كاليبر» المجنَّح والمقاتلة «إس يو 34» ودبابات «ت 90»... والتي بات لها زبائن كثر منذ الآن، حسب متحدّثين روس.
ـ أنه، وبذكاء توقيت القرار عشية بدء مفاوضات جنيف، بات بإمكانه تحقيق مكاسب كثيرة بأثمانٍ أقلّ. «وهذا ما سيجيد القيام به كالعادة وزير الخارجية سيرغي لافروف في محادثاته مع نظيره الأميركي جون كيري».
إذاً، الأكيد لدى المحللين الأميركيين أن بوتين لن يتخلّى عن سوريا ولن ينسحب من المنطقة، بل إن روسيا ستحتفظ بدور «شرطي المنطقة» الذي اكتسبته مجدداً (الى جانب الشرطي الأميركي). لكنّ بعض هؤلاء أشاروا الى أن الرئيس الروسي كان منذ البداية قد «قرر دعم سوريا كبلد استراتيجي مهم للمصالح الروسية، وليس دعم شخص رئيسها». من هنا، انطلق بعض الكتّاب الصحافيين للقول إن الرسالة التي وجّهها بوتين للرئيس السوري من خلال القرار الأخير تقول للأسد صراحة إنه «حان الوقت للتوقف عن المقاومة وإفساح المجال لعملية إحلال السلام».
إذاً، قرار سحب معظم القوات الروسية من سوريا هو نابع من «حاجة عملية» للروس بغية التقدم في المفاوضات حول سوريا، يرى البعض، فيما يصرّ آخرون على التذكير بـ«مهارة بوتين ودهائه» في لعبة السياسة الخارجية، إذ هو «ما زال يحتفظ حتى الآن بأوراق اللعب جميعها بين يديه».
«نعم لقد أوقع بوتين (بالرئيس الأميركي) باراك أوباما مجدداً وفاجأه مرة أخرى بقرار استراتيجي مهم لا عِلم له به مسبقاً»، قال بعض المحللين. «والآن، ها هو الرئيس الروسي يقول للأميركيين: نحن سنغادر بعد أن حققنا أهدافنا... وسنترككم عالقون في المستنقع السوري»، أضاف البعض الآخر.
مهلاً، لكن الحرب على «داعش» وباقي المجموعات الإرهابية لم تنته بعد، وقرار بوتين لا يحدّد حجم الانسحاب ولا مهلته الزمنية، والتفاهم مع إيران على سوريا ما زال قائماً، لاحظ البعض وسألوا من جديد «لماذا اتخذ بوتين قراره الآن إذاً؟ ما الذي سيحصل بعد ذلك؟».