كريم راشدالطريق إلى المدارس، في مخيم اليرموك، قد يكون طريقا للموت، سواء بسبب الاشتباكات الرهيبة التي تخض المخيم المحاصر منذ شهور، أو بسبب القذائف التي لا تميز، عند سقوطها، بين الطلاب أو المسلحين المعارضين. هذه الحالة تزيد من هموم أسر الطلبة إذ يضطر هؤلاء لاصطحاب أولادهم الى مدارسهم ومن ثم إحضارهم للبيت عند نهاية يوم الدراسة.
والمدارس أنواع في مخيم اليرموك. إذ تتنافس التنظيمات الكبيرة، الفلسطينية منها والسورية، المعارضة والمؤيدة أو حتى النائية بنفسها عن الصراع السوري، على لعب دور ما في العملية التعليمية. وهم بهذا ينافسون وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (الأونروا) التي تخلت عن معظم دورها بحجة عدم تعريض العاملين فيها لمخاطر الحرب.
وفي هذه السنة الدراسية، كما سابقتها، سعت الأونروا لترميم صورتها المهتزة بين أبناء المخيم عبر افتتاح عدة مدارس في المخيم، منها مدرستا الفالوجة وروضة السمو، اضافة الى مدارس أخرى في الجوامع أو في صالات الأفراح الموجودة في الأقبية، وذلك حفاظا على أرواح الطلاب الذين استشهد منهم في العام الدراسي الماضي أكثر من عشرين طفلا، كلهم سقطوا بواسطة القذائف.

وبالقرب من ساحة المريجة، التي صارت شهيرة، ثمة مدرسة «السمو» التي اختارتها الأونروا مركزا أساسيا للتعليم، وبسبب وجود المدرسة والطلاب صار بإمكان سكان تلك المنطقة الجلوس لساعات على رصيف شارع اليرموك الرئيسي، وعلى مرأى من القناصين الذين يلتزمون نوعا من الدوام المدرسي فلا يبدأون بالقنص قبل الرابعة عصرا.
ومن المعروف أن معظم المدارس العامة والخاصة قد تهدمت، إما بشكل جزئي أو بشكل شبه كامل. وفي الحقيقة، هي لم تتهدم بالخطأ، ذلك أن المدارس التي ظلت سليمة من الاشتباكات، قد جرى تخريبها ونهبها. هكذا، إذا زرت تلك المدارس، فقد ترى صفوفا فارغة سرق منها كل شيء: الكراسي، الألواح، الأبواب، الشبابيك، وحتي مستلزمات الإنارة، واكتملت الدائرة حين تم قطع أشجارها وتكسير خشب مقاعدها لاستخدامها في الطبخ أو للتدفئة في فصل الشتاء القابع خلف الأبواب. ولم تسلم من التدمير مكتبات المدارس التي انتزعت رفوفها، وسرقت معظم كتبها، ما جعل أحد الساخرين يقول بمرارة ان «الجيش الحر والمغول وحدهما من أحرقا الكتب وأهاناها بهذه الهمجية».
محاولة أسلمة وعودة الضرب
وفي غياب التعليم الرسمي، تحرص بعض الجهات التي استغلت فرصة فوضى الحرب والتي افتتحت مدارس في الجوامع، على إضفاء الطابع الإسلامي على المنهاج الدراسي، حيث بدأوا يدرسون الفقه وعلوم الحديث، ولا يسمحون حتى للفتيات الصغيرات تحت سن التاسعة، بالدخول إلى قاعات الدرس من دون ارتداء الحجاب الشرعي!. والخطر في الموضوع ان بعض القيمين والمشرفين على تلك المدارس، لم يسبق لهم أن عملوا في مهنة التعليم اصلا، بل انهم لم يكملوا دراستهم الثانوية. ولهذا يعمد بعضهم إلى استخدام أساليب، تبدو صادمة للوجدان ولمن يعرف الاصول. في هذا الصدد مثلا، يروي والد أحد الطلبة كيف أن مدير إحدى تلك المدارس يفاخر بأنه عاد للسماح بضرب الطلاب عقابا لهم، مع أن الحكومة السورية منعت الضرب في المدارس منذ سنوات طويلة. ويبرر هـذا المدير الجاهل تصرفه بأن التعليم في سوريا انتهى، وساءت حالته، فقط عندما منع ضرب الطلاب كعقوبة. ويدلل هذا العبقري على صوابية موقفه بالقول: إن بريطانيا أعادت العمل بضرب التلامذة إذا لم ينالوا العلامة الكاملة، أو إذا تخلف أحدهم ولم يكتب وظيفته...الخ.
حصار ودروس خصوصية
وفيما تغطي الأونروا نفقات العاملين فيها ومصاريف المدارس التي تشرف عليها، تقوم جهات أخرى بالاستفادة من منح أوروبية وعربية لدعم العملية التعليمية. ووفق هذا الدعم غاب العمل التدريسي التطوعي الذي عرفه السكان العام الماضي، حيث استقطب التمويل الكثير من المدرسين. وتتنافس تلك الجهات على استقبال الماهرين منهم. وبالرغم من حالة الحصار، لا يزال أولئك المعلمون يعطون دروسا خصوصية، ولا يزال هناك من يدفع لهم بسخاء.
ويشكو الأهالي من أن انقطاع التيار الكهربائي والمستمر منذ عدة أشهر لا يساعد أبناءهم على الدراسة، فضلاً عن مواعيد القصف والاشتباكات التي صارت مسائية وتشوش على تركيزهم، هذا اذا استطاعوا التخلص من خوف وقلق النهار وما حمله لهم. ويشكو الطلاب أيضا من أن الحصار المحكم المضروب منذ ثلاثة أشهرحول المخيم، قد حرم طلاب البكالوريا المحاصرين من دخول الجامعة. واليوم وبعد شهرين ونيف من تقديم طلب للسلطات السورية للسماح بخروجهم، لايزال معبر البشير، الضروري للخروج، مغلقا، ما يهدد مستقبلهم بشكل جدي.
إذا زرت مخيم اليرموك هذه الأيام فلن تسمع تلك الضجة العالية والأليفة لطلاب المدارس وهم يتجهون او يعودون من مدارسهم، بل ستراهم فرادى حزينين أو قلقين او خائفين مما قد تخفيه لهم الساعات المقبلة.
وإن نفدوا من مخاطر الحرب في ذهابهم وايابهم، الا ان وجوههم كالحة، وعيونهم زائغة، فبعضهم لم ير رغيف خبز منذ شهور وشهور. فمن يرأف بهؤلاء الطلاب الابرياء، ويبعدهم عن أشباح حرب لا يجوز أن يكونوا وقودا لها؟



على الرغم من مرور حوالي شهر ونيف على بداية الدراسة في مدارس المخيم، الا انه لم تسجل حتى اليوم أية إصابات بين الطلاب، لا من قبل القناصين ولا من الراجمات ومدافع الهاون. فمن الملاحظ أن القناصين المتمركزين على أبراج الزاهرة العالية، والمطلة على المخيم، يلتزمون دواما «مدرسيا» ان صح التعبير. فهم لا يضغطون أصابعهم على الزناد قبل الرابعة عصرا من أجل مرور الطلاب الذين يسكن بعضهم قرب خطوط التماس التي تفصل بين المتحاربين. فلنقل انه نوع من هدنة غير معلنة.