مساحات ضيقة وممرات للموت تلك الأزقة الفاصلة بين طائفتين لبنانيتين تنقلان الفلسطيني من الخوف الطبيعي الى الخوف المرضي: إحساس العجز وشدة الحذر والشعور بالنقص، العدوان والاندفاع، سوء التصرف وظاهرة تصنع الشجاعة. الفضاء مغلق والوجوه تشبه جدران المخيم الرمادية، متعبة وخائفة. زادت مجزرة صبرا على ألوانها شيئا من الأحمر القاتم المتخثر في قلوب وذاكرة الأجيال اللاحقة للمجزرة. تفكير طائفي وطبقي حاد فرضته طبيعة الحياة البائسة التي يعيشها الفلسطيني هنا.«الجزيرة المخيفة ـــ مخيم شاتيلا». هكذا تسميه الكاتبة فاتن المرّ في رواية «مفتاح لنجوى». ربما بسبب الضيق الذي يوحي بالاختناق. تقول بطلة الرواية دارين لصديقتها «هل تعلمين معنى أن يولد المرء في ممرّ؟ أن لا ينتمي الى وطن أو منزل حقيقي، بل الى ممرّ؟ المخيم هو الممر حيث كلّ شيء مؤقت».
منذ لحظة دخولك المخيم ترى شخوصاً مختلفة لفضاءات متشابهة رغم اختلاف أمكنة القادمين منها. سوريون وهنود، فلبينيون وفلسطينيون ولبنانيون. رمادية هي تلك الوجوه.

تتقلص ملامحها بتقلص المساحات المخصصة لها بسبب استمرار المخيم في جذب البائسين والفقراء من مختلف الجنسيات الى مساحته الضيقة.
كل الأزقة التي لا يتعدى عرضها أكثر من متر تؤدي الى الساحة الوحيدة في المخيم. ساحة «قاعة الشعب» التي تخبئ خلف جدرانها الخمس قصص أناس أنهكتهم أحلامهم بالعودة. هي المساحة الوحيدة للعب: عشرون مترا لا أكثر ترسم الابتسامة على وجوه قد ترى البراءة في أعينها إذا ما حدقت طويلاً فيها. الساحة ملعب، وقد تتحول الى مركز لمهرجانات الفصائل السنوية، أو لمشروع يدر المال على مؤسسات «الان جي اوز». ففي كل عام تجد واحدة من تلك المؤسسات تكتب مشروعها التقليدي الموجه إلى الدول الأجنبية الداعمة لحقوق الطفل والإنسان، والكليشة الجاهزة : «المخيم ضيق و لا يوجد غير الرمادي من الألوان لذلك علينا من الناحية السيكولوجية خلق آفاق وفضاءات، نحن بحاجة الى ألوان ورسامين ودهان، وشتل زريعة ....الخ».
الساحة قلب المخيم. لا لأنها أوسع نقطة فيه، بل لأنها المكان الوحيد الذي يرى منه أطفال شاتيلا الشمس. فالأزقة المحيطة بها ليست سوى زنازين إفرادية معتمة في سجن كبير. قصص غريبة تلك التي تشاهدها أو تسمعها. بمجرد أن تدخل أي زقاق، تنعدم الخصوصية في المخيم. الجار يسمع آهات جارته، والطفل يسمع صراخ صديقه عندما يُضرب أو حتى حين يهمس أبوه في أذنه. في شاتيلا تحتاج إلى أكثر من حمالين اثنين لتدخل برادا الى منزلك، وخاصة في الأزقة الأكثر ضيقا التي لا يتجاوز عرضها أكثر من 50 سم. أبو محمد، وبعد جهد وأحلام كثيرة في محاولة امتلاكه براداً، ها هو يتفق مع الحداد: «حبيب كيفك، أنا بدي أفوّت براد على بيتي، بس المشكلة الشارع ضيق ولازم نقص البراد بالنص عشان نقدر نفوت البراد على البيت، ولازم ترد تلحموا مرّة تانية لما يوصل. قديش بدك أجرة إيدك؟» الحداد يطلب 50 ألفا لإدخال براد مستعمل سعره 50 ألفا.
أبو محمد يرفع حاجبيه ويخاطب نفسه: 50 ألف؟ من وين أنا بدي أدفعهم؟ ويتابع حديثه «أفضل شي يا بطلب من الشركة نصفي براد وأحضر الحداد بعدها لوصله وبذلك أوفر 25 ألفا، أو بجيب البراد قطعة قطعة، وبركبو بالبيت».
أما حسن، وفي محاولة منه للخروج عن الخجل المتعارف عليه في ثقافة أهل شاتيلا، فيقول: «يا زلمه مش عارف كيف جبت خمس أولاد، ركّبت للمرة كاتم صوت عشان جارنا ما يسمعنا! شباك غرفة نومي بعيد نصف متر عن شباكو، هلأ ما عندي مشكلة أنا وهو منعمل نفس الأشي تنجيب ولاد، بس يا رجل حفظت الآه تبع مرتو أكثر من الآه تبع مرتي».
المكان هو البطل الوحيد هنا. الجميع يحاول تغيير ملامحه. تفشل المحاولة مع كلّ طلقة رصاص تخرج من فوهة شابٍ أحمق تابع لأحد الفصائل، أو من شاب آخر يخرج بندقيته التي صدّت في يوم من الأيام اجتياح العدو الإسرائيلي لبيروت، لكنه يخرجها هذه المرة ليساند بعض المجموعات الطائفية التي تحيط بالمخيم من جنوبه وشماله، لكسب حفنة من المال، أو لاعتقاده بأنه ينتمي الى هذه الطائفة أو تلك.
هنا الحلم ينتهي بين رصاصتين: واحدة تخترق قلب أمّ عجوز أنهكها الانتظار والحلم بالعودة الى فلسطين، وأخرى تستقر في رأس طفل صغير لم يخرج من المخيم منذ ولادته، كان يقال له دائما ان العالم خارج المخيم مرعب ومخيف، وإذا ما حاولت الخروج فسوف يقتلك الأعداء. «لا تخرج يا بني.. علينا البقاء داخل هذه الأسوار» كان يقال له. عدد اللاجئين تضاعف، والخيمة أصبحت بيتا. و«الله يبارك في البيت اللي بيطلع منو بيت»، ولكن الى أين؟ المساحة محددة، وفي البيت الواحد ثلاث عائلات أو أربع. لم يعد هناك سوى الصعود نحو السماء، حيث لا أحد يستطيع منع الناس من البناء. فوق البيت بني بيت، التوسع في المكان لا يأخذ سوى الشكل العمودي. شاتيلا يصعد نحو السماء، والمكان هنا كوميديا سوداء، لا يوجد سوى أبطال تراجيديين. وعيهم الشقي دائماً ما يدفعهم الى البقاء في ذاكرة «المرمية» وخبز التنور وبرتقال الجليل.
الحاجة أم موسى التي هُجرت من فلسطين منذ أكثر من خمسين عاماً، لم تخرج من المخيم سوى بضع مرات لا أكثر. هي لا تزال تحتفظ بكل ذكريات طفولتها. أسألها: منذ متى لم تخرجي من المخيم؟ «من عشر سنين لم أرَ سوى هذه الأزقة، تقول، ولن أخرج إلا الى فلسطين». تسكت ثم تضيف كمن يحلم «هناك يمّا الأرض حلوة وفي شجر، أنا عم بستنى أرجع». تشمر أم موسى ثوبها عن ساعدها وهي تقول «اطلع هون شو مكتوب؟ بعرف أنو حرام الدق على الجسم، وأنا بصلي، بس رسم فلسطين مش حرام، أبوي دقّها على إيدي من يوم كنت طفلة صغيرة وكثير شيوخ قالولي شيليها حرام، بس أنا ما رح شيلها».
في المخيم يتأفف الاهالي من الميليشيات الفصائلية، يقولون انهم «بدل أن يكونوا عنصرا مساعدا على تحسين أوضاع المخيم، يفعلون العكس! فهم من يتسبب بالمشاكل على الغالب، وخاصة من يحملون السلاح بينهم، وفي حالات كثيرة هم من يحمي باعة المخدرات.. هم ذاتهم الميليشيات الفصائلية الموجودة».
الشيء الوحيد الذي لا يزال يبث الطمأنينة في تلك الأرواح العارية التي تسكن المخيم، أملها في العودة التي لطالما انتظرتها، الجميع يحتفظ بمفتاح الدار في الجليل الأعلى، يرددون ما تناقلوه عن آبائهم: أيام أو أسابيع ونعود.



في المخيم لا تغيب كاميرات الصحافيين أو صانعي الأفلام الوثائقية، فهو مادة دسمة، إلا أن الناس هناك ملّوا كونهم موادّ إعلامية فقط. في السنوات السابقة كان الأطفال يتدافعون أمام الكاميرات اعتقاداً منهم أن قدوم هؤلاء الغرباء سوف يساعدهم على تحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. الممرضة «سمية»، وهي إحدى العاملات في مؤسسة تعنى بالشؤون الصحية هناك تقول: «لقد أصبحنا مواد إعلامية فقط، فكل الأفلام والمقالات التي كتبت عن واقع المخيم لم تغير شيئاً من الواقع. لا تزال الدولة اللبنانية تتعامل معنا على أننا بؤر أمنية يجب محاربتها».