ريف دمشق | بدأت «قصة الهاون» في دمشق عشيّة الإعلان عن تشكيل «الائتلاف السوري» المعارض، بقيادة أحمد معاذ الخطيب في حينه. يومها كان «المجلس الوطني السوري» يواجه موجة تشكيك عارمة في قدرته على التأثير في قرار المسلحين على الأرض، بعدما استنفد مهمته في استجلاب التدخل العسكري الغربي.
أعطى الخطيب، بعد وقتٍ قصير من توليه منصبه، أمراً للمسلحين باستهداف «مقرّات النظام»، فسقطت «الرشقة» الأولى من قذائف الهاون على ساحة الأمويين القريبة من رئاسة أركان الجيش، والتي تمرّ عبرها حوالى تسعة آلاف سيارة في الساعة، كونها عقدة مواصلات أساسية، وتطلّ عليها مباني الإذاعة والتلفزيون والمعهد العالي للفنون المسرحيّة ومكتبة الأسد. مذذاك «تآلفت» دمشق وضواحيها، وبالأخص جرمانا، مع قذائف الهاون التي سقط المئات منها مخلّفة مئات الشهداء والمصابين من المدنيين.

مصادر الهاون

بعد استهداف ساحة الأمويين، أصبحت وتيرة سقوط القذائف التي تنهال على العاصمة من كل الجهات شبه يومية، باستثناء الجهة الشمالية حيث يقع جبل قاسيون. وتشكّل بعض مناطق داريّا، القريبة من بساتين كفرسوسة، بالإضافة إلى المعضميّة، مصدراً أساسياً للقصف الذي يستهدف الجزء الغربي من دمشق، كساحة الأمويين والمهاجرين وساحة الجمارك وحيّ البرامكة الذي يتوسط العاصمة تقريباً. وسقوط القذائف على هذه الجبهة متقطع، إذ يرتبط بالمجريات السياسية للأزمة السورية، كون هذا الجزء من العاصمة يضم مراكز سياسية حساسة، كالقصر الجمهوري وقيادة الأركان ومطار المزّة العسكري ومقر الأمن العسكري. أما الجزء الشرقي من العاصمة فيجري استهدافه على نحو متواصل من برزة وجوبر والمليحة، ومن جهة يلدا وببيلا ومخيّم اليرموك جنوباً.
ولجرمانا وحدها قصّة طويلة ومؤلمة مع قذائف الهاون. فهذه المدينة التي أصبحت خلال الأزمة بمثابة خزّان بشري يضمّ حوالى 900 ألف نسمة، تتعرض لقذائف الهاون على نحو شبه يومي، من ثلاث جهات. يقول حسن عبيد، من أهالي جرمانا، لـ«الأخبار»: «غدا مشهد القتلى والجرحى مألوفاً لدى أهالي جرمانا، وسيارات الإسعاف جاهزة دائماً في انتظار سقوط قذيفة هاون».
ويصعب الرد على نقاط إطلاق قذائف الهاون، لأن منصّة الاطلاق عبارة عن أنبوبة بسيطة، توضع ضمن مساحة بسيطة، ويطلقها رامٍ واحد، يمكنه الهروب مع منصته فور إطلاق القذيفة، كما يمكن تصنيع هذا السلاح محليّاً، وتداوله ببساطة مثل أي رشاش أو قاذف مضاد للدروع.

دور الهاون في الحرب

الهاون من أبسط أنواع القذائف، وأكثرها خطأً في الإصابة. إلا أن هذه ليست نقيصة لهذا النوع من السلاح، بل هي وظيفته الأساسية لأنه يفتح كل احتمالات الموت أو الإصابة، في أي لحظة وأي مكان. من هذه الناحية، تعدّ هذه القذيفة سلاحاً نفسياً فتاكاً يزرع الرعب في التجمعات البشرية الكبرى. ففي مدينة دمشق وبعض أريافها، حيث لا يوجد أي خطر مباشر على حياة الناس، تقطع هذه القذيفة كيلومترات عدة لتحطّ في تجمّعات بشرية غافلة. تقول الطالبة الجامعية ريم هرملاني (19 عاماً): «لم أشهد بعد أي سقوط لقذيفة هاون من حولي، لكنني أسمع على نحو دائم عن سقوط قذائف في دمشق، الهاون غيّر حياتنا، لم نعد نستطيع الخروج لساعات طويلة كما في السابق، فكلما طال بقاؤنا في الطرقات زاد احتمال إصابتنا بقذيفة». والأسوأ هو الأثر الاجتماعي والنفسي داخل البيوت الذي تخلّفه احتمالات الإصابة بقذيفة هاون. تضيف ريم: «منذ أن خيّم شبح القذائف على دمشق تغيّرت طباع والديّ، وازداد خوفهما علينا، فخفضا معدل الزيارات والسفر، ومنعا إخوتي من الخروج خلال الصيف وفي العطل، ما ولّد حالة احتقان وتوتر مستمرين حتى داخل البيت».

مجازر الهاون: كليّة العمارة و«شارع نسرين»

تعد مجزرة كليّة العمارة، التي وقعت في الشهر الثالث من العام الجاري، من أبرز الشواهد على بشاعة هذا السلاح. حيث سقطت القذيفة على مقصف الكليّة، ما أدى إلى مقتل 20 طالباً، وإصابة العشرات، بعضهم تحولت إصابته إلى إعاقة دائمة.
ولا ينحصر دور قذائف الهاون بالحرب النفسيّة فقط، فهي بالتأكيد تؤدي غرضاً عسكرياً، لا سيما عندما يكون رامي القذيفة ينطلق من فكرة أن عدوه يتربع على كامل الجغرافيا ــ الهدف. كما هو الحال في جرمانا، حيث يجري استهدافها لمجرّد كونها تحت سيطرة الدولة. ولكن، وفي المقلب الآخر، تسري الحال ذاتها في «شارع نسرين» في حي التضامن، جنوب دمشق، الذي تسيطر عليه «اللجان الشعبية». ففي ظل الفوضى الناجمة عن الحرب هناك، تقوم بعض عناصر هذه اللجان بإطلاق قذائف الهاون عشوائياً على جميع النواحي المجاورة، المخيّم ويلدا وببيلا، حتى أنها أصابت القوى الصديقة في كثير من الأحيان، من عناصر الجيش أو «اللجان الشعبية» في مخيم اليرموك. يقول محمد الزين (40 عاماً)، وهو قيادي في «اللجان الشعبية» في المخيّم، لـ«الأخبار»: «تعرضنا غير مرة، نحن والمدنيون، لقذائف لجان شارع نسرين، وكان ظننا في البداية أن هذه اللجان تفتقر إلى الخبرة العسكرية الكافية لإطلاق القذائف، لكننا تأكدنا، بعد أخذٍ وردّ معهم، بأنهم يتعاملون مع كل المناطق المتوترة على أنها مصدر خطر ينبغي مواجهته. وقالوها بصراحة: لن نميّز بين الإرهابيين وما سموه البيئة الحاضنة»، الأمر الذي دفع بـ«لجان» المخيم إلى الاحتكام إلى الجيش، الذي فرض على لجان شارع نسرين رقابة وتقنين على إطلاق القذائف. ويضيف الزين: «مع ذلك لا تزال اللجان تتلاعب بهذه المسألة، طالما أنه من الصعب تحديد الطرف المسؤول عن الإطلاق في ظل الفوضى القائمة، ويبقى الأمر خاضعاً لمزاجيات موتورة لدى بعضهم».




مستودع الهاون

قبل شهر رمضان الماضي، انخفض عدد قذائف الهاون التي تسقط على مدينة دمشق. بحسب مصادر عسكرية ميدانية، تراجع مخزون القذائف لدى المسلحين المنتشرين في المناطق التي تُطلَق منها القذائف، لكن وتيرة تساقط المورتر فوق رؤوس سكان العاصمة السورية، عادت للارتفاع، ابتداءً من آب الماضي.
فبحسب المصادر، تمكن مسلحو المعارضة حينذاك من الاستيلاء على مخزن للذخيرة، فيه نحو 600 قذيفة هاون. جرى ذلك قبل أن يستعيد الجيش السوري السيطرة على المطاحن في شرقي الغوطة الشرقية (قرب طريق مطار دمشق الدولي). ووزّعت المجموعات المسلحة هذه القذائف على مناطق عديدة في الغوطة الشرقية، ليجري إطلاقها نحو المناطق السكنية في دمشق، وباتجاه عدد من المناطق العسكرية خارج العاصمة، وخاصة في الغوطة الشرقية وجنوبها.
(الأخبار)