دمشق | لم يكن القطاع الصحي السوري، قبل اندلاع الأحداث، خالياً من المشكلات. سوريا كانت تتميز، نسبياً، عن معظم دول الجوار بطبابتها، المتراوحة بين المجانية والأسعار الرمزية، بحكم التدخل القوي للدولة في القطاعات كافة، ومنها الصحي. لكنها كانت، في الوقت نفسه، تعاني من الروتين الذي يسم طبيعة جهاز الدولة، ومن الفساد والمحسوبيات التي عششت في مؤسسات هذا الجهاز. وتمثّلت الضربة القوية التي تلقاها القطاع الصحي بالميل نحو الخصخصة، في فترة الانفتاح الاقتصادي والتحوّل نحو «نظام السوق الاجتماعي» بعد عام 2000، فبدأ الاهتمام بالقطاع الخاص على حساب العام، ما أدى إلى ارتفاعٍ ملحوظ في أسعار الطبابة، وتراجع حاد في أداء القطاع العام. ونتج عن ذلك، بالتالي، ترد واضح في الحالة الصحية لدى الشرائح الفقيرة والمتوسطة. وبلغت النسبة التقريبية 110 مستشفى حكومياً، في مقابل 400 مستشفى خاص. لكن رغم ذلك، بقيت حال الرعاية الصحية في سوريا جيدة إذا ما قورنت مع نظيرتها في دول الجوار. إلا أن الحرب التي نشبت فيها، منذ آذار 2011، فتحت الباب أمام تدهور سريع في هذا القطاع، وبرزت خصوصاً مشكلة النقص الحاد في توافر الأدوية الطبية.
تنقسم الأدوية الطبية في سوريا إلى قسمين، أولهما المصنّع محلياً في المصانع السورية البالغ عددها نحو 65 معملاً في القطاعين العام والخاص. وقد أهّلت هذه الصناعة سوريا لاحتلال المرتبة الثانية عربياً في الصناعة الدوائية، وكان الاعتماد الأساسي عليها، لا سيما في أدوية الأمراض العابرة والبسيطة. وثانيهما المستورد من الخارج، وغالباً ما كان يعتمد عليه في حالات الأمراض المزمنة والخبيثة، فلم يتجاوز الاستيراد 20% من حاجة البلاد للدواء. وقد بدأت أولى العقبات حين فرضت الدول الغربية عقوبات وحصاراً اقتصادياً، بعيد اندلاع الأزمة، فجمّد استيراد العديد من الأدوية، وصار طريق التهريب، خصوصاً من لبنان، هو الوحيد لإيصال الأدوية إلى سوريا. وتشير ريما رزق الله، وهي صاحبة إحدى الصيدليات في دمشق، إلى أن «تهاون الدولة في تهريب الأدوية لم يحل الأزمة، إذ يلجأ العديد من الصيادلة التجار إلى إخفاء الأدوية في المستودعات، وحين يطلبها المريض، يتم إيهامه بأن عملية الحصول على الدواء شاقة وطويلة ومكلفة. وتتضاعف المصيبة باشتداد خطر المرض الذي يعاني منه الزبون». وتضيف لـ «الأخبار» أنّ «المشكلة، حتى اليوم، أنّ الحكومة لم تباشر، جدياً، في البحث عن بدائل حقيقية للاستيراد من الغرب. لماذا لا تعمل على فتح خطوط استيراد جديدة وواسعة مع الدول الحليفة مثل روسيا والصين وإيران؟ مع العلم أن الصناعات الدوائية عند هذه الدول تطورت جداً خلال العقد الماضي».
تجدر الاشارة الى أن تقريراً صادراً عن «منظمة الصحة العالمية» أخيراً حذّر من التأثير السلبي للعقوبات الاقتصادية على قطاع الصناعة الدوائية في سوريا، وكذلك من تقلبات العملة وزيادة التكاليف التشغيلية على انتاج الأدوية.
إلا أن الضربة شبه القاضية التي أصابت القطاع الصحي السوري تمثّلت بتوقف العديد من معامل صنع الأدوية عن العمل، أو التدني الواضح في حجم انتاج المصانع التي حالفها الحظ واستمرت في عملها. فكثير من المعامل دمر بالكامل خلال المعارك، أو اتخذت مواقع تحصين عسكري، عدا عرقلة شحن الأدوية بين المحافظات نتيجة قطع الطرقات. ويلفت حسن مرعي، الطالب الجامعي في كلية الطب البشري، أنّ الأمر «لا يتعلق بالدواء فقط. أي شيء من مستلزمات الانسان يصعب نقله بين مناطق السورية. مسلحو المعارضة يقابلونك بالاتهام: بدك توصل هالغراض لجماعة النظام؟ ومسلحو الموالاة يتهمونك بمساعدة الإرهابيين. وفي الحالتين: أنت الخاسر في معركة لا يرحم أحد فيها أحداً». ويعقِّب: «مضادات الوزمة والالتهابات الكبيرة وأدوية الأعصاب والقلب شبه مختفية في الصيدليات، نتيجة العقوبات ووقف الاستيراد. وإذا ما غضب القدر عليك وأصبت بشظية أو جرح، تبدأ الاجتهادات الفردية في سؤالك عن هويتك، وإذا ما كنت مسلحاً أم مواطناً عادياً؟ لا يمكن تحميل المسؤولية لطرفٍ واحد فقط، فهذه قوانين الحرب».
وكخطوة مساعدة للقطاع الصناعي الدوائي، أصدرت وزارة الصحة أخيراً قراراً جديداً برفع أسعار الأدوية بنسبة 50% على المستحضرات الصيدلانية التي سعرها مئة ليرة سورية وما دون، وهي تمثل نحو 50% من مجمل المستحضرات المصنعة محلياً، وزيادة 25% على المستحضرات الصيدلانية التي تزيد على المئة ليرة سورية.
وكانت الحكومة رفعت بداية العام الجاري سعر شريحة الأدوية التي يصل سعرها إلى 50 ليرة وما دون بنسبة 40%، ولشريحة 100 ليرة وما دون 25%، ولشريحة الأدوية التي يصل سعرها إلى 300 ليرة وما دون 10%، ولشريحة 500 ليرة 5%، أما الشريحة 501 ليرة وما فوق فهي صفر %.
كما عمدت إلى إلغاء حصرية انتاج الصنف الدوائي لشركة واحدة، لتفسح في المجال أمام المصانع والشركات الباقية لإنتاج كافة انواع الأدوية، لتلبية حاجات المجتمع السوري المتزايدة في ظل ظروف الحروب والحصار.
(شارك في التقرير علاء غرزالدين)



معمل «تاميكو»

برزت بعض التجارب لتعويض النقص في صناعة الأدوية، لكن من دون أن تتم الإضاءة عليها إعلامياً بشكلٍ فاعل. فعلى سبيل المثال، اقتحمت المعارضة المسلحة معمل «تاميكو» في الغوطة الشرقية لدمشق (غير بعيد عن طريق مطار دمشق الدولي، قرب بلدتي شبعا والمليحة)، وهو واحد من أكبر معامل الأدوية المساهمة في الانتاج المحلي، بحجة أنه تابع للنظام السوري. يومها دافع العمال بأنفسهم عن المعمل، وكانوا قد تصدوا قبل ذلك مرات عدة لمحاولات المسلحين الاعتداء عليه، «رغم كل الاستغلال والمصاعب التي نتعرض إليها كعمال دافعنا عن المعمل بأرواحنا، إيماناً منا بضرورة استمرار العمل والإنتاج. إلى أن قامت ما تسمى كتيبة شباب الهدى بضرب المعمل بشكلٍ إجرامي. حينها اضطررنا إلى التوقف مؤقتاً عن العمل، ونقل المعمل إلى منطقة باب شرقي الآمنة نسبياً وعاودنا الانتاج من جديد»، يروي الحاج أبو محمد، أحد العمال الذين كانوا موجودين يوم اقتحام المعارضة المسلحة للمعمل. ويؤكد: «ليس العسكر وحدهم من يقاتلون. نحن العمال سنقاتل أيضاً حين تتعرض المعامل للخطر!».