أذكر ذلك اليوم جيداً. كنت أجلس على سطح «المركز الفلسطيني للثقافة والفنون» في المخيم المطل على منطقة التضامن. يومها، بسبب الفضاء الفارغ أمامي من الأبنية، سمعت أنا ومن معي أصواتاً ظنناها للوهلة الأولى طرقاً على الحديد. إلى أن رنّ هاتفي، فكان صوت أمي مرتعباً، تنبهني إلى ألّا أقترب من البيت، بيتنا، وهو بالمناسبة لا يبعد عن المكان الذي كنت فيه أكثر من كيلومتر ونصف. فهمت أنه القصف. فبدأت أنا وأصدقائي نصغي إلى رشقات الرصاص وصداها، محاولين ترجمة ما نسمعه إلى أماكن نعرفها مسترشدين بالدخان الذي بدأ يتصاعد هنا وهناك.بعد دقائق، رأينا الأهالي يخرجون من بيوتهم نحو المخيم، المنطقة الأقرب إليهم. نزلنا جميعاً وانضممنا إليهم، لكن ما إن وصلنا، حتى رأينا سكان المخيم قد نزلوا بدورهم إلى الشوارع للمساعدة في إجلاء الأهالي.
هكذا، دخلت شاحنات «السوزوكي» الصغيرة إلى التضامن «لتحمِّل» ما تيسر من السكان، في الوقت الذي فتح فيه شبان من المخيم مدارسه لإيواء النازحين.
أسرتي ما زالت في الداخل. يا إلهي! ركضت باتجاه بيتي. مررت بمشاهد لم أقوَ على التوقف من أجلها: أطفال يبكون ونساء يركضن بهم، وجوههم طافحة بالخوف. رجل يبحث عن طفله الذي ضاع في هذه الفوضى ودموعه تكرّ على خديه. ووسط كل تلك الفوضى والذعر، كان هناك من يصور كل هذا. كان لديه الوقت والأعصاب للتصوير. الأصوات المختلطة بين صراخ الناس وإطلاق الرصاص لا تتوقف. الرصاص الذي يخشى الفارون من أن يصيب أحدهم في أية لحظة أو في أي زقاق.
أخيراً، وصلت إلى البيت. لكني لم أجد أبي وأمي وأختي. شممت رائحة خوفهم من التلفاز الذي تركوه على ما يبدو لاستعجالهم، مضاءً. الأواني بقي بعضها نصف نظيف. لم احتمل وحشة المكان من دونهم، فخرجت مسرعاً بحثاً عنهم. سألت جاراً، فقال: خرجوا منذ قليل!
حثثت الخطى لأصل منطقة «دوار فلسطين»، وهي المنطقة التي تصل التضامن بالمخيم، لأعرف من الأصدقاء إن كان أحدهم قد رأى أهلي. لكنّ أحداً لم يرهم. كانت الاتصالات الهاتفية قد انقطعت، ما زاد من قلقي. لم تكن هذه الحال حالي وحدي، بل كانت حال المئات من أبناء المنطقة.
دخل مسلحون حيّنا، حيَّ التضامن، فأصبح ساحة معارك جديدة في خريطة الصراع السوري. أما مخيم اليرموك، المجاور له، فصار منطقة «آمنة» آوت النازحين من التضامن ومنطقة الحجر الأسود. منذ ذلك الحين، أنا نازح. صفة جديدة تضاف إلى صفتي كلاجئ فلسطيني.
أخيراً في زحمة الهروب، وجدت أسرتي. كان الخوف يلفهم، فخرجنا معاً باتجاه بيت جدي في منطقة تقع وسط دمشق، وهو ما لا يتوافر لكل الفلسطينيين؛ فغالبيتنا تقطن المخيمات. بقينا عندهم ثلاثة أشهر تقريباً، إلى أن أُعلن «تطهير» التضامن، فعدنا لنجد جدران الحيّ وقد ملأتها الثقوب، وبعض المنازل سوتها الحرب بالأرض. بقينا في بيتنا نحو شهر، وفي ذلك الشهر كان يوم أبناء المنطقة ينتهي تقريباً بعد غروب الشمس بقليل خوفاً من أي طارئ، ولوحشة المكان التي صارت سمة لحينا، حي التضامن.
وفي الشهر الحادي عشر، عادت المعارك إلى التضامن بضراوة أكبر. أذكر أني كنت في مقهى «جدل» في مخيم اليرموك حين أتى والدي وأختي إلى المقهى بحثاً عني. حذراني من الذهاب إلى البيت؛ لأنّ أمي أخبرتهما أن القذائف تهطل في المنطقة كالمطر. هكذا، لجأنا إلى بيت خالتي في شارع «صفد» الذي لا يبعد عن بيتنا أكثر من كيلومترين. هناك، عشنا «ليلة قذائفية» بامتياز، نسمع انطلاق القذيفة و«صفرتها» ونزولها في مكان ما، ونسمع بين وقت وآخر صوت أمي العالقة مع بعض الجارات، في الحارة، وهكذا إلى أن طلع الصباح وهدأت القذائف وخرجت أمي ووصلت إلينا.
… وبدأت رحلتنا مجدداً إلى وسط دمشق، نحو بيت جدي، لنقل ما استطاعت أمي حمله من ملابس وضروريات، ليقينها أن نزوحنا هذه المرة، سيطول. كان لا بد من البحث عن منزل يؤوينا، وحصلنا على ما نريد. وما زلنا في بيت نزوحنا حتى هذا اليوم، لا حسد! فتجار الحرب، تاجروا بمأساة الناس كما يطيب لجيوبهم الملآنة وقلوبهم الفارغة. خرج أهالي المخيم بعد أحداث التضامن بشهر تقريباً، في 17/12، بعد أن دخله المسلحون وبدأت المعارك داخله. توزع الأهالي بين مراكز الإيواء في مدارس الأونروا خارج المخيمات، وبيوت نازحين هربوا قبلهم، فكانوا نازحين عند نازحين. بعض أهالي المخيم ممن لم تسعفهم أحوالهم المادية الصعبة، لم يخرجوا وبقوا داخله يعانون الصعاب، ويخلقون من العدم وسائل حياة، حيث وصلت الحال بهم اليوم مثلاً إلى صنع الخبز من الأرزّ والبرغل، بالأحرى مما بقي من مثل هذه المواد. مضى عام على نزوحي وأسرتي، وعام على الضياع، من ابن مخيم أو جوار مخيم، إلى ابن مدينة أو بالأحرى جوارها.
في هذا العام رحل الكثير من الشهداء، والكثير من الذين اعتقلوا، والكثير ممن هاجروا إلى لجوء جديد موسوم بالنزوح.
في هذا العام كبرنا كما لم نكبر من قبل. وربما أدرك بعضنا فعلاً كيف كانت مأساة أهلنا في نكبة عام 1948 قبل 65 عاماً، وأدركوا لماذا خرج من كنا نلومهم من ديارهم، فلقد كانوا كما نحن اليوم، مكرهين.
الآن صارت فلسطين أوضح من ذي قبل. فقد أصبحت كل الأماكن مخيماً.





السخرية باتت السلاح الذي يعين من بقوا في المخيم على «حياتهم» اليومية. فبعد أن باءت بالفشل كل محاولات فك الحصار عنهم، من مبادرة منظمة التحرير الفلسطينية، التي وافقت السلطات السورية عليها، إلى محاولات إخراجهم من قبل جهات مختلفة، لم يبق لهؤلاء إلا الصبر والنكتة. من هذه «المحاولات» الصفحة التي أنشأها خليل أبو سلمى بعنوان «حكيم غوراني قديم شوي». يقول مثلاً تعليقاً على يوم من دون قصف: «يا جماعة، شي صاروخ، قذيفة، اشتباك على الماشي! طيب علُّوا صوت التلفزيون! أحسن شي أقوم أتخانق مع مرتي: بدي أعرف أكتب»