دمشق | وحيدة بقيت الكنائس هناك على تخوم الجبال ونيران المعارك تشتعل حولها حتى طالت بعضها منذ أيام. غادر أهل معلولا بيوتهم نحو التشرد، تاركين خلفهم أيقونات السلام لتشهد على وحشية الحرب الطاحنة في سوريا. نزح جزء من سكانها باتجاه قرية عين التينة (شمال غرب دمشق50 كلم)، والجزء الآخر منهم جاء إلى كنائس وبيوت باب توما، وباب شرقي وسط دمشق القديمة. في الأحوال العادية ثمة بيوت اصطياف في معلولا البلد لبعض العائلات المسيحية المقيمة في دمشق، ولكنها اليوم فقدت ولن تعود قريباً، علقت قلوب الأهالي ونجا أغلبهم من سيوف «النصرة» و«داعش»!في قلب دمشق، حيث الأحياء المسيحية، توجّه مهجرو معلولا (15 ألف نسمة) التي دخلت خط النار منذ أيام، إلى هناك، وفي ذاكرتهم مشاهد عن العودة الحقيقية للعصور الجاهلية. «دخلوا بعد تفجير حاجز معلولا عند القوس، من المدخل الشرقي والمدخل الغربي للبلد، أطلقوا النار في الهواء وأخبروا سكان معلولا المسيحيين ألا يخرجوا لأنهم كانوا يبحثون عن عائلات محددة تعمل في اللجان الشعبية، كانوا يحملون سيوفاً ويلبسون كالأفغان وتنظيم القاعدة»، يروي جورج أحد المهجرين لـ«الأخبار»، والذي رفض ذكر كنيته بسبب «تهديدات المسلحين»، كما يقول.
هنالك أناس مسلمون من عائلة دياب وقمر من قلب معلولا كانوا يجولون مع المسلحين بعد اقتحام البلدة: «ليدلّوا على المطلوبين ممن يوالون النظام ويحملون السلاح دفاعاً عن معلولا، هؤلاء شكلوا حاضنة اجتماعية للمسلحين وسهّلوا لهم احتلال فندق سفير معلولا منذ ستة أشهر بعد أن استجروهم من مناطق يبرود، ورأس العين، والجبّة، وبخعة، وجبعدين، وحوش عرب»، يضيف جورج.
قاومت «اللجان الشعبية» في معلولا لمدة ثلاثة أيام قبل دخول مسلحي المعارضة حتى نفدت ذخيرتهم وسقط منهم أربعة قتلى، لينسحبوا وتدخل «جبهة النصرة»، «ولكن قبل ذلك سبق عملية إشعال المنطقة عسكرياً، محاولات إثارة النعرات الطائفية بين أهل المنطقة من اسلام ومسيحية، كافتعال مشاجرة بين أطفال من ديانة مختلفة، ليدخل عناصر الجيش الحر ويهدّد الموالين بحجة ما حدث»، يشير فراس فرح لـ«الأخبار»، وهو أحد سكان باب توما ولديه منزل في معلولا لا يعرف عنه شيئا! حاولت المعارضة المسلحة جرّ المنطقة بأي ثمن للصراع المسلح، رغم أن مكاسبها السياسية فيها لا تشكل أي ثقل لدى الرأي العام، لكن معلومات بحسب ما روى الأهالي لـ«الأخبار» رجحت أن معلولا إلى جانب دير مارسركيس الذي يقع على قمة جبلية يتمركز فوقه قناصو المسلحين، تشكل حماية استراتيجية لظهر مناطق القلمون الطافحة بـ«جبهة النصرة» وألوية المعارضة المسلحة. وكانت معلولا هي الهدف الثاني بعد احتلال الدير الجبلي، إضافة إلى ذلك لم يتردد هؤلاء بطرحهم المجرّح للأهالي حين كانو يشتمون رموزهم الدينية ويجبرون بعضهم على التخلي عن عقيدته المسيحية من أجل أفكارهم المشبوهة.
لم يحمل أهل معلولا من الأيام الأولى لمعارك مدينتهم إلا الحزن والأسى على الأمكنة والذكريات التي لا تتحمل رصاصة واحدة، بسبب بنيتها الخشبية الطينية الهشة، كيف بها مع أصوات وارتدادات المدافع والهاون والقنص؟ لاحقاً دخل الجيش السوري بعدما أجرى سلسلة عملية للحفاظ على بنية المدينة الأثرية حتى وصل إلى ساحة معلولا ليفرغها، ويؤمن خروج المدنيين ممن بقوا، لتتحول معلولا إلى خط تماس مع القلمون.
لم يكن يوجد لجان منظمة وحواجز ضمن المدينة طيلة فترة الأزمة، كان هنالك حاجز في مدخل المدينة وآخر عند فندق «السفير». «لم يرغب أهل المدينة بحمل السلاح بشكل واضح، كي لا يحدث أي استفزاز بين الأهالي، وهذا الشيء كانوا يدفعوننا إليه بأي ثمن»، تروي مريانا أبو حمدان لـ«الأخبار». تؤكد أنّ الدولة لم تكن مستعدة لمثل هذه المعركة «رغم الخطر المحدق بالمناطق المسيحية حول معلولا بسبب التصاقها بمنطقة القلمون حيث بؤرة المسلحين المرتبطة مع حدود لبنان، عدا الكم الهائل للمسلحين الذين جاؤوا من القصير واحتلوا مزارع ريما قرب يبرود»، تضيف.
في دمشق يمكن أن تجد رائحة الجراح في كل زقاق قديم. هناك حيث رفضت العاصمة أن تعتبر النازحين غرباء، واحتضنت وجعهم على أرضها فانتشروا في باحة كنيسة الزيتون وطرقات طالع الفضة وكنيسة الصليب في باب شرقي.
«نحن لا نقول إن تعايشنا مع الاسلام انتهى، فأهلنا في عين التينة من مسلمين أغاثوا بعض أهالي معلولا وأمّنوا لهم البيوت والطعام والأمان، لكن المسلمين الجيران (20 بالمئة من سكان معلولا) خانونا وغدروا بنا»، بشيء من السواد يروي جوزيف لـ«الأخبار» بعدما شاهد من نافذة بيته في معلولا، جيرانه وهم يجرون بعض «الشبيّحة» نحو الموت!

«حديث الأقليات»

الأحاديث في قلب دمشق عن توتر الأقليات لم يعد مخفياً، الجميع بات يعيش في تفتت اجتماعي يقاومه شريحة اجتماعية بسيطة تتمتع بالوعي الثقافي والحياتي المكتسب من صراعات الأزمة، فالناس في عاصمة الأمويين تعرف جيداً أن ورقة معلولا لخلخلة التوازن في ما بعدها أي قدسيا والهامة، والمعركة المقبلة كما يتوقع البعض هي في منطقة صيدنايا المسيحية أيضاً، والتي تبعد عدة كيلومترات قليلة من قوس ريف دمشق الشمالي، حيث يطوقها الجيش السوري تحسباً لأي معركة. أمّا في دير مار تقلا، الذي قال عنه أهالي معلولا «إن رئيسته قالت ما قالته تحت التهديد بأن المسلحين يساعدونهم ويحمون الدير!»، ولكن معلومات بثها الإعلام الرسمي السوري منذ يومين أشارت إلى أن الدير بات تحت سيطرة الجيش السوري.

إغاثة في قلب دمشق

رغم ذلك بادرت حملة «معلولا قلب دمشق»، التي انطلقت منذ أيام في كنيسة الزيتون، لاحتضان النازحين من معلولا الذين جاؤوا بالثياب التي عليهم فقط، كما يقال، بلا مأوى أو مال أو حتى أوراق ثبوتية لهم. الأهالي في باب شرقي وما حولها اجتمعوا كفرق اغاثة جماعية بعد تدخّل الهلال الأحمر ومكتب الأمم المتحدة في سوريا، ووزارة الشؤون الاجتماعية، وقاموا بتنظيم حملة تطوعية لإيجاد مساكن وغذاء للنازحين. مصدر مسؤول عن الحملة، رفض ذكر اسمه، صرّح لـ«الأخبار» أنّه «منذ الأيام الأولى لمعارك معلولا، ضغطت الأحياء المسيحية هنا وامتلأت باحة كنيسة الزيتون، وبعض البيوت، بأهالي معلولا، فجاء متبرعون من مختلف الفعاليات الاجتماعية ليقدموا مساعدتهم، إضافة إلى راهبات الراعي الصالح قدموا مساعدات مالية لإسعاف من يفترش أرض الكنيسة على الأقل، بعد يومين من ذلك بدأنا بتنظيم قواعد بيانات لحصر الأسماء واحتياجاتهم، كان هنالك جزء من مهجري معلولا في ضواحي دمشق وريفها وهنا في الشام القديمة، حاولنا جمعهم». وأضاف المصدر أنّ «الدعم كان منظماً عن طريق الهلال الأحمر السوري وتضمن فرشات نوم، وأغطية، وسللاً غذائية كانت توزع كل يومين على 33 عائلة، وتحتوي على السكر والأرز والزيت والفول والحمص وحاجيات غذائية أخرى، وكان لفريق شباب دمشق التطوعي مهام توزيع الوجبات لأهلنا الضيوف».
في كنيسة الزيتون تزامن إطلاق هذه الحملة مع وجود محافظ دمشق بشر الصبان، ووزير الأوقاف محمد عبد الستار ومنظموا الحملة، الذين دعوا كل أهالي معلولا لإقامة الصلاة في الكنيسة، في خطوة للئم الجراح التي أصابهم. كذلك وعد الصبان بتقديم كل العون للحملة إضافة إلى تسهيلات لتسجيل طلاب المدارس الذين هجروا من معلولا دون الحاجة لأوراق ثبوتية، وتقديم العون لهم في مدارس دمشق. لكن الطرفة التي لا تحتمل أن مدير إحدى المدارس طلب من أولياء أمور بعض الطلاب أن يذهبوا إلى معلولا كي يحضروا كشف درجات لأبنائهم من أجل التأكد من مقاربة الصف المناسب لعمره في العاصمة!