فاديا لاذقاني *

آذار 1976، الشام، أبو رمانة

على درج بناءٍ أنيق ذي باب حديدي من الصناعات اليدوية مزخرف أسود اللون، ننتظر دقائق قبل أن يفتح عبد العزيز الباب تسبقه ابتسامته الواسعة، ينزل بكل هدوء العالم. لا شيء يستعجله. ببطء وشموخ وعلوّ ينزل الدرجات القليلة. نظرته تنتمي إلى تلك التي تسجلها الذاكرة مرةً واحدةً باقية. بالكاد يُسمع صوته يلقي السلام بأدبٍ أكثر من جمّ. كم كان وسيماً وجميلاً.
ـــ هاكما الأمانة.
كان الكيس يحتوي على أشرطة «كاسيتات» مهرّبة لأول شريط لمارسيل خليفة.


تشرين الأول 1985، مخيّم اليرموك

البيت يعجّ بضجة الرائح والغادي. كنا أكثر من عشرين شخصاً نتحرك في الاتجاهات كلها. نغني ونشرب ونعبث ونحن نُعدّ أطباق السهرة. رجلٌ واحد يقتعد الزاوية صامتاً يكاد الجدّ يبعث في معالمه بعضاً من عبوس. يبدو في سكينة أحاط بها نفسه، وهو يكبّ على قراءة ما في يديه، ثم يمسك القلم بين الفينة والأخرى، متابعاً عمله غير مكترث بالضجيج، كأنه في خلوةٍ عنا جميعاً.
أيار 2006، باريس، الباستيل


هل سأعرفه؟

العينان نفساهما وألق النظرة المطمئنّة المُطَمْئِنة نفسها. لم يعد أسود الشعر واتسع قليلاً فراغ شعره عند مقدم الرأس.
بعد حديث عن مشرّدي الرفاق والأصدقاء في أوروبا. قال لي: لم أر واحداً منكم سعيداً هنا، حتى المرتاحين مادياً منكم. يقتلكم الحنين، فلا أنتم هنا ولا أنتم هناك! كفاكم نظراً إلى الماضي. عيشوا الحاضر. قرِّروا مرة واحدة لا رجعة عنها. فإما البقاء في أوروبا والتعايش مع وضعكم وبناء حياة حقيقية هنا، أو عودوا. شجِّعوا بعضكم بعضاً على العودة. راح الماضي تعالوا نعمل المستقبل.
كأنّ لعبد عندما يتكلم سحر النبيّ على كل من شهدته يسمع له. طالما تساءلتُ في الجلسات عن سرّ حضوره الكثيف الطاغي وأنا أرى كيف ينظر إليه الشباب مسحورين مبهورين بإيقاع أدائه (ربما أكثر بمحتوى ما يقول؟). لا يستطيع قولُ عبد أن يتركك سالماً منه. يكاد يكون «معلّماً» كشيخ حلقة صوفيّة، يربط الآخرين إليه بحبل سرّي لا يُشاهد. يمضي سهرته يتلقى الاتصالات من كل حدب وصوب، تختلط التهانئ بحريتة الطازجة بالعمل يطرق عبد أبوابه مباشرةً. بلا تمهيد وبنبرة اللطف الغامر ذاتها. كأنْ ليس من وقت زائد يضيّعه، هذا الرجل المنذور للتفرد والبطولة. مذ كان في الابتدائية يحرر جريدة الحائط المدرسية، ولربما قبل ذلك!
كم يحترم عبد إيقاعه الشخصي الذاتي الذي يكاد أحياناً يستفز بعض ذوي الأمزجة النارية السريعة، لا تخلخل انتظامَه وتسلسلَه المصائبُ ولا الحادثات، فهو معه في أقصى درجات الانسجام. كأن عنده الوصفة السحرية مبطلة مفعول المفاجأة، فتراه دائماً جاهزاً لكل احتمال. هو هكذا في الحوار أيضاً، إذ يظن «خصمه» أنه (الخصم) في قولته الأخيرة، أتى بحجة الحجج دعماً لمنطقه. لا يتغير ملمحٌ من ملامح عبد، إلا أن تتسع ابتسامته ويزداد إشعاع نظرته الودودة شاملةً المكان كله. ربما يرشف رشفةً من كأسه، أو قد يشعل سيجارةً، ثم يبدأ الردّ والتفنيد دون أدنى مسحة للغضب والتأثر. تبقى نبرته واثقة هادئةً واضحة بطيئة، لا علاقة لها تماماً بنبض الحديث العام بل بنبضه هو.
مرةً أخرى يكرر «خصم» الحوار تساؤله عن هذا الرجل العجيب: عبد، وعن مصدر هذا الهدوء الداخلي الساجي في سكينةٍ تكاد تكون دائمة الوجود؟

اللاذقية، 2007

يحمل عبد «السياسة» إلى أقاصي الجبال والقرى وشطّ البحر. في تغنيه بالطبيعة سياسة، وفي تذوقه لفطائر السلق طازجة من أيدي صانعاتها على الطرقات سياسة. ما خسره على الصعيد الشخصي لم يعترف يوماً بكونه خسارة. «كل شيء له ثمن» هذا أقصى ما يمكن أن يقوله إن سمع تلميحاً عن «مجد» ابنه يكبر لأب غائب. يبلغ الانسجام، بين ما خطَّه لنفسه وما يعمله كل يوم، حدّاً يجعل بعض المقربين يتساءلون أحياناً إن كانت له «نقطة ضعف» يمكن أن يتسرب المرء إليه عبرها!
أوَلا يؤمن الأنبياء بأنفسهم وبرسالتهم إيماناً يشعّ من عيونهم وكيانهم كله، فبهذا يكسبون المؤمنين؟
يا عبد، قلتُ لماريا إنهم غيّبوك مرة ثالثة منذ عام. قالت إنها تنتظرك لاسترداد الشال الأبيض الحريري الصوفي الذي نسيتَه عندها في البندقية. لا أنسى تلك اللحظة النادرة التي شفّ من غلالتها حزنك عليه وأسفك على نسيانه. وكأنك ندمت على سماحك لهما بالظهور، وكأنما لم ترد أن تطول برهة الحديث، قلتَ لي بسرعة واقتضاب إنه من أغلى ما تملك، وإنه شال والدك.
* كاتبة سورية