تشاء الصدف ان تعمل في صحيفة. تجد نفسك بسبب عملك الجديد قد تحولت فجأة في نظر الناس من «ابن شارع» الى «استاذ». و«ابن شارع» ليست شتيمة، فأغلبنا قضى جزءا من عمره على «راس الحي»، عاطلا من العمل، لا يفعل شيئا سوى مراقبة وجوه المارة واجساد الفتيات. وبما انك «لا شغلة ولا عملة»، فإنك ستلتقي بأمثالك هناك «على راس الحي»، من اولاد المنطقة والاحياء الاخرى. بمرور الايام تقوى العلاقة بينكم، تذهب لزيارتهم بهدف مراقبة فتيات حيّهم، وبدورهم يردون الزيارة، ويأتون الى «حيّك» ليراقبوا «بنات منطقتك». تكبرون معاً، تمر الايام عليكم، تتوثق علاقتكم، لكنكم تفترقون: هم بقوا في الشارع يمارسون الطقوس نفسها التي لا تزال تشاركهم بها كل يوم عطلة لا تكون فيه «استاذا» وكل ليلة بعد العمل، وانت تذهب في اليوم التالي الى عملك النظيف المهفهف وتبقون اصدقاء. بعض افراد «الأورطة»، التي كبرت معها سافر الى الخارج. اصبح بعضهم مديرين في فنادق وشركات. عند كل اتصال يسألونك بحنين «بعدكم عم تقعدوا على راس الزاروب»؟ خلال اجازتهم، تجدهم في المكان الذي كبروا فيه على «راس الزاروب».
دارت الايام، لم نعد بحاجة لتجميع سعر علبة السجائر او المعسل. ولم يعد التخطيط لأكل ساندويشات البطاطا بحاجة الى درس معمق لمصروفنا، أغنانا كان يطلب ساندويش من الدجاج. بالطبع لم يكن صاحبه يهنأ به لأننا كنا «نشاطره» اياه.
لكن، ربما كان علي البوح لكم بسر: بعض شباب المنطقة الذين كبرت معهم، تغيّروا. وفي حين تطور البعض، فإن البعض الآخر «تطور» هو الآخر في الطريق الذي سلكه. هكذا اصبح بعضهم .. لصاً! ثم تفاقم تطورهم فاصبحوا اصحاب اختصاصات: منهم اختصاصي سرقة دراجات نارية، آخر اختصاصي نشل وسطو بقوة السلاح، وبعضهم اصبح تاجر حبوب ومخدرات. لكن، في النهاية، لا يزال هؤلاء اولاد جيرانك ومن تربيت وكبرت معهم.
المعضلة الاخلاقية التي تصيبك انك تعرف طيبتهم، تحتاج إليهم في عملك الجديد في الصحافة، يصبحون مصادر لك.
أذكر انه حينما اشتريت دراجتي النارية الاولى، جمعت أغلب اصدقائي «حرامية المنطقة»، طلبت منهم الاسترزاق بعيداً عن دراجتي. لكن الصدمة كانت عندما استيقظت في احد الايام ولم اجدها. للوهلة الاولى اعتقدت انني ركنتها في مكان آخر. فتشت عليها لكني لم اجدها. عرفت اني «اكلت الضرب». وبما ان الصديق عند الضيق، لجأت الى اصدقائي «الحرامية». شتمتهم، وهددتهم وتوعدتهم بـ«مشكل وبتكسير اجريكم اذا بشوفكم». بالطبع التهديد ليس لأنني «سوبرمان» فأنا أعتمد على افراد عائلتي الكبيرة الذي يشكلون قبيلة. يطلبون مني «مهلة للتفتيش على الدراجة». يسألون أصدقاءهم «الحرامية» عمن «كان عم يشتغل بمنطقتنا؟». يمر يومان. يأتي احد اصدقائي الحرامية ليقول لي انه وجد الدراجة وان سارقها يريد «حلوينة». في سري، عرفت انه هو السارق. اذ ان صيت الشاب يسبقه، وهو الوحيد الذي «يمد يده» على المنطقة التي يسكن فيها، عكس قاعدة اللصوص الذهبية التي تقول «لا تسرق من المنطقة التي تسكن فيها». افاوضه على اعادة شراء دراجتي فيقول «300 دولار قسومة والله العظيم انو اذا ببيعها كسر (قطع) بتجبلي اكثر!». تسلم أمرك لله، وتعتبر انك اشتريت دراجة جديدة مسجلة بـ300 دولار.
هكذا، تجتمع بأصدقائك كل ليلة. تسمع منهم عن احوال عملهم. «هالإيام مسكّر الشغل»، يقول احدهم. اما السبب فهو حواجز حزب الله التي ضيّقت على السارقين. خلال الجلسة، يمر شاب وخلفه فتاة على دراجة نارية. يقرر احد اصدقائي بدء عمله باكراً. يسحب مسدسه عن خصره ويضعه بين قدميه وهو يركب دراجته، ثم يلحق الشاب هاتفا بي «إلحقني شوف كيف بشتغل» يقول ضاحكاً. يستطيع الشاب والفتاة الهرب، لأن قوة دراجة الشاب اقوى من دراجة صديقي اللص. يعود خائباً «ما استرزقنا» يقول.
يشرح طبيعة عمله: يخرج ليلاً على متن دراجته وخلفه صديق آخر. يذهبان الى «الشرقية». يسرقان من هناك دراجات نارية او ينشلان المارة، ويعودان بغنائمهما الى المنطقة. يقول ان الدراجات التي تُسرق في الضاحية ترسل الى الشمال او الجنوب او الى منطقة برج حمود، والعكس صحيح. يقول ان المناطق مقسمة بين السارقين. لكل منهم دوام عمل محدد، ولا تتضارب هذه المواعيد بين سارقين.
بعد فعلة صديقك هذا تجد انه اصبح خطيرا، واصبح بحاجة لرادع. تفكر في «الدزّ» عليه ليتربى، لكنك تتذكر انه قد امسك به في السابق، لكنه حين خرج «تفرعن» أكثر. تلغي الفكرة وتحاول اقناعه بالكلمة الطيبة.
لذة هؤلاء البشر انهم بسيطون غير متكلفين. لا يشبّحون عليك بتلاوة اسماء كتب وكتاب غريبة، ولا يدعون الثقافة، لا يهتمون بالامن القومي ولا «يجغّلون» عليك بماركة الثياب التي يرتدونها او بالهاتف الذي يحملونه. هنا «أتخن» كذبة قد تكون عن «أديش فتح الكيلومتراج» على دراجته النارية، او كيف «زبّط» فتاة ما. الجلوس معهم لذيذ، ربما لانني تربيت بينهم. اما الاجمل فمشاركتهم الرحلات الطويلة على متن الدراجات النارية، فالحركات البهلونية التي يقومون بها مرعبة ما يرفع نسبة الادرينالين. صحيح انها العاب خطرة على النفس وعلى الغير ولكن، ربما كان هذا الأدرينالين هو المتعة الوحيدة التي لا يكلفهم التلذذ بها مالاً فوق طاقتهم، او تلزمهم من اجلها جنسية «مرتبة».

يمكنكم متابعة قاسم س. قاسم عبر تويتر | @QassemsQassem




بالقرب من مخيم برج البراجنة يوجد زقاق طويل معروف باسم «حي السيمو». الحي معروف بهذا الاسم تيمناً باسم دواء السعال الشهير الذي يحمل الاسم ذاته «السيمو». مدمنو حشيشة الكيف ،يتعاطون هذا الدواء في جلساتهم ليكون لسجائرهم تأثير اكبر. والحي خارج نطاق المخيم، لذلك لا تستطيع اللجنة الامنية في المخيم الدخول اليه، كما تعتبر الدولة اللبنانية انه يقع ضمن نطاق المخيم، لذلك هي الأخرى لا تدخل اليه. ما يفسح في المجال امام سارقي الدراجات النارية وتجار المخدرات للعمل هناك بدون اي خوف.