«الأمر سيان. هو الموت صار جزءاً من سيرتنا اليوم. لا يغادر أحاديثنا. نتآلف معه ويتألف معنا، نتوقعه وننتظره، وحين يأتي يأخذ من وجوهنا لون الحياة. لكن، رغم ذلك بتنا لا نخافه إلا بمقدار ما نخاف أن يدركنا، قبل أن نبلغ سر ما خلقنا الله من أجله». هكذا توجز الدمشقية شرح عقد الشراكة في الحياة بين الدمشقيين والموت. الدمشقية تبوح لي «أمرّن قلبي على عدم الخوف من الموت. ففي كل نهار، أخرج وأردم ازدحام الطرق بالإصغاء لكل صوت في الشارع.. نشرات الأخبار تنفع لأشاغل بها نفسي وسط ملل الطريق الطويل، المشغول بالحواجز.. لا شيء في الأخبار يدفعني للمضي قدماً في الطريق، لكنني أمضي.
تسألني روحي: على بعد مئات الأمتار يحوم الموت، كما تقول نشرات الأخبار، فإلى أين تمضي؟ ابتسم وأقول لها: أمضي حيث علي أن أمضي، فإن كان القدر يتربصني هناك بالموت، فهو قدري». لوهلة أحس أن الدمشقية قد فقدت الرغبة بالحياة. أسألها، فتقول «التقدم إلى الأمام أكثر، هو رغبة أشد بالحياة، فالموت لا يأتي إلا في موعده، وحتى يأتي موعده؟ بدنا نعيش.. ثم من يموت هنا، في دمشق، يموت شهيداً. أنا أحسد الشهداء.. ألا تحسدهم أنت أيضاً؟».
أصابت الدمشقية وأخطأت أنا.. وقد بدت تصر على أن تفسح وسط الركام مساحة لحياة لا تنفع لخبر عاجل، كما تقول لي. الدمشقية اعترفت لي بأنها تخاف الموت أحياناً، لكن القضية هنا مسألة إيمان وأمل.
الأمل الذي تعربش فوق الدمار، ويقيم أعراس الفرح رغم الموت، كان فضيلة الحياة كما تعلمتها من أمي الفلسطينية الخارجة من مخيم تل الزعتر بإكليل غار.. وعدت لأتعلمها من دروس الحياة القادمة مع أخبار مخيم اليرموك: «استمرار الاشتباكات على كافة محاور المخيم.. استمرار القصف والحصار على المخيم.. وفاة الحاج أحمد نوفل أحد الصامدين في المخيم.. استشهاد أحمد السهلي وعدنان قاسم الناشطين في الإغاثة واسعاف الجرحى في المخيم جراء القصف.. بدء امتحانات الدورة التكميلية في مخيم اليرموك في الصالة الدمشقية ومدرسة الازمة ومدرسة الجرمق وجامع فلسطين.. تدعوكم مؤسسة بصمة الاجتماعية للتسجيل في العام الدراسي القادم في المدرسة الدمشقية الاهلية.. بحمد الله رزقنا بمولود جديد وسميناه.. اتشرف بدعوتكم لحضور حفل العرس..».
كل تلك الأخبار كانت آخر ما تتسلل، في آن معاً، من وسط حصار المخيم.. إنها فضيلة الحياة، كما نمارسها مع سبق الإصرار والترصّد.. فحين يصير الموت حدثاً عادياً لا يخيفنا، ينسحب لصالح الحياة في أولويات اهتماماتنا.. وما بين موت وموت نمرّن قلوبنا على الحياة.
الدمشقية قالت لي: «هنا نحن نشاغل الموت بعشق الحياة»... المخيم قال لي: «هنا ثمة حياة نحبها، تتسع وتكبر حتى يضيق بها الخبر العاجل»... وبعيداً عن دمشق والمخيم، في البلاد التي لا قصف ولا دمار فيها، كان الموت يشاغلني فيسرق من بين يديّ الحياة.