جاء وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل إلى لقاء القاهرة حاملاً معه أجندة دعم التدخل العسكري الأجنبي المباشر وتغطيته عربياً. أما وزير الخارجية المصري نبيل فهمي فلم يقدم، في المقابل، دفاعاً عن موقف الدولة أو القيادة السورية، ولم يبدِ أي تأييد لها، لكنه قام فعلياً بإجهاض تبنّي قرار بتأييد الضربة العسكرية وتغطيتها سياسياً من الجامعة العربية. تم بالتالي إمرار بيان ختامي يدين جريمة استخدام السلاح الكيميائي في سوريا، ويحمل النظام السوري مسؤوليتها، لكن يحول الملف السوري إلى الأمم المتحدة لكي تعمل بناءً على القوانين الدولية وميثاق الأمم المتحدة لاتخاذ الإجراءات اللازمة، ما يعني فعلياً عدم القيام بشيء، ويعني أكثر من ذلك رفض التصرف خارج سياق الأمم المتحدة، وما يحمل موضوعياً إدانة ضمنية لأي عمل عسكري من خارج إطار مجلس الأمن، ما يخدم سوريا موضوعياً، بغض النظر عن تحميل المسؤولية والإدانات.
وقد شجع الموقف المصري عدداً من الدول العربية مثل الجزائر وغيرها على اتخاذ مواقف أعلى سقفاً، فتحفظت على البيان الوزاري إما رفضاً لمبدأ الدعوة إلى تدخل دولي أو محاكمات، أو احتجاجاً على تحميل الدولة السورية مسؤولية استخدام السلاح الكيميائي، إلخ... وكلها تحفظات وجيهة وأكثر بالطبع، سوى أن أي بيان مشترك مع السعودية ما كان من الممكن له أن يكون أعلى سقفاً مما خرج عليه. وقد لعبتها الخارجية المصرية وسطياً بإعطاء السعودية كل ما تريده ما دام لا يتعلق بتغطية ضربة عسكرية أو تدخل أجنبي مباشر في سوريا، وهنا مربط الفرس في اللحظة السياسية الراهنة.
وهو فرق كبير إذا ما قورن بتذيل مصر للسعودية في الملف السوري وغيره منذ حسني مبارك والمجلس العسكري ومحمد مرسي حتى تاريخ 30 حزيران 2013، ما يؤشر إلى أن مصر ربما بدأت تخط لنفسها نهجاً مستقلاً مع مراعاة ضوابط الحفاظ على الدعم السعودي والخليجي، المالي بالأخص، في ظل الأزمة المالية والاقتصادية الخانقة التي تعيشها، وسلسلة الإجراءات التي اخذتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي للتضييق عليها. ويذكر أن ما يقارب مليوني مصري يعملون في السعودية حالياً، يحولون عدة مليارات من الدولارات سنوياً لمصر، تليها تحويلات المصريين من الأردن، ثم الكويت.
ويزداد هذا الفرق في السياسة الخارجية المصرية وضوحاً إذا ما أخذنا في الاعتبار حجم الاستثمار المالي والسياسي والعسكري والإعلامي والأمني للحكم السعودي في مشروع إسقاط الدولة السورية، لا القيادة السورية فحسب، وسعي الحكم السعودي لقيادة ذلك المشروع منفرداً، من خلال محاولة تحجيم دور منافسيها في جماعة الإخوان المسلمين، والسعي لتحجيم الدول التي يمتلك الإخوان المسلمون نفوذاً فيها مثل قطر وتركيا ومصر محمد مرسي.
ومن المعروف أن الحكم السعودي خاض معركة سياسية ضارية لتعزيز نفوذه في المجلس الوطني السوري من خلال فرض استقالة «رئيس الوزراء» غسان هيتو المدعوم قطرياً، والإتيان برجله أحمد الجربا رئيساً للمجلس في انتخابات دعمت فيها قطر المرشح المنافس أديب الشيشكلي. والأهم أن الحكم السعودي فرض قيوداً على الدعم الذي تقدمه قطر للإخوان المسلمين في سوريا، وللجيش الحر، وفي المقابل، حصل الحكم السعودي على موافقة الولايات المتحدة لتزويد الجماعات المسلحة في سوريا بصواريخ أرض ــ جو غير أميركية، على أن يجري توزيعها تحت إشراف «المجلس العسكري الأعلى».
وجاء الدعم السعودي والخليجي لإطاحة حكم الإخوان المسلمين في مصر ضمن السياق نفسه: تحجيم منافس عقائدي عنيد للوهابية، بالضبط لأنه ينافس على الجمهور نفسه (السنّي)، ويمتلك إضافة إلى الأدوات الوهابية ربطات عنق وعلاقات جيدة مع الغرب (آن باترسون نموذجاً) ومفردات الديموقراطية الليبرالية التي جرى تطويع الخطاب والبرنامج الإخواني ليلائمها. لهذا بات صعود الإخوان في الإقليم خطراً وجودياً، غير مبدئي، لكن حقيقي، على الوهابيين. أما قطر، فيمكن الحكم السعودي أن يتجاهلها لولا الغاز وقناة الجزيرة، أما مصر فقيمة تاريخية وجغرافية وسياسية وعسكرية معتبرة لا يمكن التقليل من شأنها، فما بالك إذا وقعت في أيدي الإخوان وتم توظيف قدراتها لخدمة مشروعهم الإقليمي؟!
ولعل أشرس الحروب والتنافس السلمي والعنيف كانت ولا تزال تجري تاريخياً بين من يتنافسون على نفس الأرضية، من صراع الدول الاستعمارية على اقتسام العالم في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إلى الصراع الصيني ــ السوفياتي في العالم الاشتراكي سابقاً، إلى صراع البعث مع الناصرية في فضاء القومية العربية، إلى صراع جناحي البعث في سوريا والعراق، إلى صراع الدولة الصفوية والعثمانية في الفضاء الإسلامي قبل قرونٍ على العراق، إلخ... وهو قانونٌ موضوعي للجغرافيا السياسية لا ينحل التناقض الجوهري الذي ينتجه إلا بانتهاء أحد طرفي النزاع، أو توحدهما سلماً أو حرباً تحت سيطرة إدارة واحدة، بغض النظر عن تشابه التوجه العقائدي والشعارات.
وبنفس المقدار الجغرافي ــ السياسي بالضبط، يعرف حكام السعودية جيداً أن صعود مصر يعني أفول الوهابية. وقد كان صعود مصر في النصف الأول من القرن التاسع عشر في ظل محمد علي باشا مقدمة قيام ابنه إبراهيم باشا باجتياح عاصمتهم الدرعية ودكّها دكاً، وهو ما أسّس للتعاون الوهابي مع بريطانيا أصلاً. كذلك يعرف حكام السعودية أن صعود مصر في ظل الرئيس القومي العربي جمال عبد الناصر شكل القانون الأساسي للحرب الباردة العربية في الخمسينيات والستينيات، والتي تحولت إلى حرب حارة على سوريا واليمن. ويعرفون أن إخضاع مصر تم عبر «وهبنة» و«سعودة» المجتمع المصري في ظل أنور السادات بالتعاون مع رئيس الاستخبارات السعودية آنذاك كمال أدهم، وقد حرص حسني مبارك على تحجيم دور مصر العربي والأفريقي والدولي، ما أسهم في إبقاء العلاقات جيدة مع الحكم السعودي.
باختصار، يعرف حكام السعودية أن مشروعهم الإقليمي لا ينجح إلا إذا بقيت مصر تحت جناحهم، أو تحت الأزمة، ويشكل تقديم 12 مليار دولار، منهم ومن حكام الكويت والإمارات، ثمناً قليلاً لتحقيق مثل ذلك الهدف الجغرافي السياسي المهم للسياسة السعودية. فإذا برز تناقض بين الموقف السعودي من جهة، وبين الموقف الأميركي والأوروبي من جهة أخرى، إزاء إطاحة الحكم الإخواني في مصر، فإنما ينبع ذلك من شعور حكام السعودية أنهم على وشك أن يُستبدلوا بالإخوان، في سياق ما يسمى «الربيع العربي»، وبأن الإخوان منافس عقائدي جدّي لهم، وبأن مصر، على مستوى آخر، لا يجوز أن تفلت من الأميركان ومنهم لتلعب دوراً مستقلاً، ما يهددهم مباشرة كما علمتهم تجربتهم التاريخية المرة، وقوانين الجغرافيا السياسية.
كذلك يسعى اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة لمنع إيقاف المساعدات العسكرية الأميركية لمصر، لأنه يدرك جيداً معنى انفلات مصر من العلاقة مع أميركا، ما يعني بالضرورة تهديد الأمن الاستراتيجي للكيان الصهيوني. ولذلك يضغط الأميركان والأوروبيون على مصر بشدة، ويلعبون ورقة «الديموقراطية» و«حقوق الإنسان» ذوداً عن حكم الإخوان، ولكن ليس إلى حد انفراط عقد العلاقة.
في المقابل، تحتمل السعودية من مصر الخلاف حول سوريا على مضض، لأن مصر المستقلة تعرف أن أمنها الوطني يبدأ من بلاد الشام، وأن اتفاق مصر وسوريا يعني بداية النهاية بالنسبة إليها، والمصريون في المقابل يدركون أن تدمير الدولة السورية واستنزاف الجيش السوري في معارك داخلية، بعد الشروع في تفكيك السودان، يهدد أمنهم الوطني استراتيجياً، ويضعفهم إزاء العدو الصهيوني والغرب، وينقل معركة الاستنزاف والتفكيك والفتنة إلى داخل مصر نفسها.
وعليه، يمكن القول إن حكام السعودية يتبعون الآن استراتيجية مزدوجة تقوم على تقليم أظافر الإخوان في الإقليم وشطب مشروعهم المستقل، مع توظيفهم ضمن المشروع السعودي وتحت سقفه، وتقوم في الآن عينه باحتواء مصر ومنعها من الانفلات باتجاه مستقل ومنع صعودها. في المقابل، يقوم حساب الحكم الجديد في مصر على التقاطع مع السعودية حول إطاحة حكم الإخوان في مصر، وتأجيل ملفات الخلاف وإدارتها بنحو يتيح شراء الزمن والخروج من المرحلة الانتقالية، لكنه خلاف حاصلٌ لا محالة في النهاية، بمقدار ما تتخذ مصر لنفسها مساراً مستقلاً.