غزة | ليس جديداً على غزّة أن تعيش حكاية المناطق العازلة، لكن الجديد هذه المرة أن تُقدم شقيقتها مصر على إنشاء إحدى هذه المناطق على امتداد حدودها معها. غزّة التي لا تلبث أن تتنفس الصعداء لثوانٍ معدودة، تعود اليوم لتواجه مسلسلاً مكتمل الحلقات والفصول لخنق الحياة فيها أكثر فأكثر، ومخرجه هذه المرة الجيش المصري بقيادة عبد الفتاح السيسي. تحلّ المنطقة العازلة ضيفةً ثقيلةً على نفوس أهل القطاع، وخصوصاً أن الجيش المصري أعلن نيته إنشاءها بعرض 500 متر وطول 10 كيلومترات، بدءاً من معبر رفح وانتهاءً في البحر المتوسط، دون إذنٍ مسبق من سكان القطاع أو اتفاق مع حاكمهم الحالي. شرع بهدم نحو 15 منزلاً في منطقة «الصرصورية» على بعد بضعة كيلومترات من معبر رفح، تمهيداً لإقامة الحزام العازل هناك بحجة انتهاك «حماس» للسيادة المصرية، واستغلالها الأنفاق لأغراض «غير مشروعة» مرتبطة بتهريب الأسلحة وبعض من قيادات «الإخوان» من قطاع غزّة وإلىه، فضلاً عن اتهامها بالاعتداءات الواقعة في المنطقة الرخوة أمنياً، شبه جزيرة سيناء، المعروفة بمعايشتها للتوترات والتقلبات الأمنية منذ عقودٍ مضت. ولم يتوقع أهل قطاع غزّة أن يؤدي الجيش المصري، الذي أحرز انتصاراً تاريخياً في حرب أكتوبر 1973، دور الاحتلال الإسرائيلي في يومٍ ما عبر لفّ حبل الحصار على رقابهم، من خلال المنطقة العازلة التي تقضي على جميع المحاولات الرامية إلى تهريب السلع الأساسية والمواد التموينية البسيطة، وتعمل على تجفيف منابع السلاح وتجهز على بذرة المقاومة الباقيّة في غزة، مستحضرين إلى ذاكرتهم كيف أرغمت المقاومة الفلسطينية الاحتلال على الموافقة على إنهاء المنطقة العازلة شمال قطاع غزة وشرقه، بموجب اتفاق التهدئة في شهر تشرين الثاني من العام الماضي. وتبدي المؤسسات الحقوقية تخوّفها وقلقها الشديدين من إقامة مصر المنطقة العازلة، رغم جواز ذلك قانونياً، فهي غير ملزمة تجاه غزة بتوفير حرية الحركة والتنقل ومقومات الحياة كاملةً. ويقول نائب رئيس المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، جبر وشاح لـ«الأخبار» إن «غزة أرض محتلة، وبالتالي المسؤولية الأولى تقع على عاتق الاحتلال الإسرائيلي وفق المواثيق الدولية. أما حركة البضائع مع مصر، فينظمها البعد الإنساني والعروبي واتفاقية جنيف كتوفير ممر آمن»، محذّراً من أنّ حل الخلافات والصراعات السياسية الدائرة بين سلطة «حماس» والجيش المصري بطريقة أمنية يدفع ثمنها بالنهاية المواطن المغلوب على أمره. وطالب وشاح بجسر الهوة بين القوى الحاكمة في مصر وقطاع غزة بشكل سياسي بعيدٍ عن اللعب على أعصاب الغزيين وإخافتهم من الطرفين، مستبعداً دخولهما في مواجهة ميدانية على الحدود، كما يروّج لها كثيرون هذه الأيام. كذلك رفض مغالاة «حماس» ومبالغتها في طرح سيناريوات العدوان المصري على غزة، قائلاً: «هذه فانتازيا، وكلها محاولات للتهويل، فمصر لا تزال تلملم جراحها، ولا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تفتح أي جبهة أو تفتعل أي أزمة مع قطاع غزة».
ويرفض وشاح أيضاً تسمية المنطقة العازلة هذا الاسم، مؤكداً أنها حزام أمني لعدم توافر معايير المناطق العازلة، ومن أهمها امتلاك قطاع غزة جيشاً وكياناً مستقلاً، فضلاً عن ضرورة موافقة الطرفين على إنشاء هذه المنطقة، تلاشياً للمخاطر الأمنية. ويرجع كثيرون شريط ذكرياتهم إلى الوراء قليلاً، ليبصروا أمامهم الناشطة الأميركية ريتشل كوري، التي دهستها جرافة إسرائيلية، وهي تدافع عن بيتٍ يعود إلى عائلة نصر الله داخل محور فيلادلفيا الذي يُعَدّ بمثابة منطقة عازلة في رفح، طارقين باب الخوف من ولادة كوري ثانية وثالثة ورابعة في ظل حملة الهدم الواسعة للمنازل الفلسطينية على الحدود.
وترى «حماس» أن إقامة مصر لهذه المنطقة العازلة خطوة غير مسبوقة في تاريخها، ويقول القيادي الحمساوي يحيى موسى لـ«الأخبار»: «هذه الخطوة لم يقدم عليها سوى مجموعة من المصريين لا يدركون معنى العروبة، ناسين أن هذا الاعتداء السافر ليس اعتداءً على حركة حماس، بقدر ما هو اعتداء على شعب بأكمله». ويضيف: «ما يحصل الآن لم يجرؤ عليه المخلوع حسني مبارك، كذلك فإنه يمثل ردة عن فترة حكم جمال عبد الناصر»، معرباً عن استيائه من التغير العميق الملحوظ في عقيدة الجيش وأولوياته؛ فبعدما كان يعد العدو الإسرائيلي عدوّه الاستراتيجي الأول، بات قطاع غزة أعظم قوة عدائية لمصالح مصر وأمنها، بحسب موسى.
وعن نية الجيش المصري تأديب «حماس» عبر هذه الخطوة، قال موسى: «الحديث عن موضوع التأديب حديث رخيص، فحركة «حماس» أعظم من أن يكون التعامل معها وفق هذه الرؤية، فهي حالة شرف تدافع عن مصر والقاهرة كما تدافع عن القدس تماماً». وفي ما يتعلق بالبعد الإنساني، أكد أن اتفاقيات حقوق الإنسان ومعاهداتها تفرض على كل دول العالم عقوبات صارمة لو لم تفتح دروب الحياة بوجه الشعوب المحاصرة، مشدداً على أن مصر ستُعاقب دولياً لو أصرّت على تشديد الخناق على غزة.
واستبعد موسى أن يتخذ الجيش المصري قراراً عبثياً بضرورة حسم أمر قطاع غزة بنحو عسكري وأمني صارم، قائلاً: «لا يمكننا أن نسمح تحت أي ظرف كان بالدخول في معركة ساذجة لا يجني منها أحدٌ ربحاً، لكن لو حصل ما لا نأمله، فالقانون يضمن لنا الحق في الدفاع عن النفس».
أما القيادي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رباح مهنا، فقد أكد لـ«الأخبار» أن مصر تهدف من وراء المنطقة العازلة إلى القضاء على الأنفاق قضاءً نهائياً، معلناً تأييد الجبهة لإغلاق الأنفاق إذا وفّرت مصر بديلاً مناسباً لذلك. ودعا الطرفين المصري والفلسطيني إلى الاحتكام للعقل في حل الإشكاليات الراهنة، وعدم الحديث عن حربٍ جنونية تجمعهما